للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دعوة المظلوم لا تحجب]

[المسألة السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.

السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب].

اتقاء دعوة المظلوم هذا مطلقة، ليست في الزكاة فقط، يجب على العبد أن يتقي الظلم مطلقاً، سواء بالقول أو بالفعل، والظلم في الواقع كثير من الناس، ولكن بعض الناس ما يتنبه له، وإلا فما يخلو إنسان من ظلم إلا نادراً وقليلاً، فقد يكون الظلم في كلمة يتكلمها الإنسان، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، هذا هو المسلم، أما الذي لا يسلم المسلمون من لسانه ولا من يده فهو مسلم إسلامه غير كامل، وإيمانه ضعيف، وإلا فما يخرج الإنسان عن الإسلام بكونه يظلم الناس بلسانه أو يده، ولكن الإسلام الذي يكون الإنسان به سالماً من الظلم هو أن يكف لسانه ويده عن أذية المسلمين، مثل الكلام في الأعراض، فلان فيه كذا، وفلان يقول كذا، فهذا من أعظم الظلم، وهذا الذي قد لا يسلم منه أحد، وأناس كثير يشتغلون فيه، وبعض الناس يقول: إن هذا جائز لأنه واقع فيه.

وهذا في الواقع ظلم وإن كانوا واقعين فيه، فلا يجوز لأحد أن يتكلم في أخيه بالشيء الذي يكره وإن كان فيه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره.

قالوا له: يا رسول الله! أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهت هو أعظم الظلم -نسأل الله العافية- أن يقول فيه ما ليس فيه.

وربما يتعدى الأمر إلى النميمة، والنميمة أصعب من الغيبة، وقد جاء في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة نمام)، وفي رواية: (لا يدخل الجنة قتات)، والقتات هو النمام، والنميمة هي نقل الحديث للغير على وجه الإفساد، مثلاً يريد أن يضره فينقل كلامه إلى من يستطيع أن يضره، أو ينقله إلى صديق له أو غير صديق ولكن ليوغر صدره عليه ويجعله معادياً له مبغضاً له، فإذا كان ينقل الحديث على هذا الوجه فهو نمام -نسأل الله العافية-، وهذا كثير جداً.

ويجب أن يحرص الإنسان على سلامة نفسه، ولا يجوز للإنسان أن يوزع حسناته على الناس، يعمل بحسنات ثم يهديها إلى الناس؛ لأن القصاص يوم القيامة سيكون بالحسنات، يؤتى بالإنسان الذي قد عمل حسنات كثيرة فتؤخذ منه وتوزع على الناس الذين ظلمهم وتكلم فيهم بما يكرهون.

أما إذا تعدى الأمر إلى اليد وأصبح -مثلاً- يضرب أو يأخذ المال فهذا أمر عظيم، وقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)، أنه من اقتطع حق امرئ مسلم بغير حق فقد استوجب النار، فقيل له: وإن كان شيئاً يسيراً! قال: (وإن قضيباً من أراك) أي: وإن كان سواكاً.

فحقوق الناس بعضهم مع بعض مبنية على التقصي، وعلى ألا يترك منها شيئاً، وكل واحد يوم القيامة سيقاصص مع صاحبه، جاء في الأثر أن الإنسان يمسك الإنسان ويقول: يا ربي! خذ لي حقي من هذا.

فيقول الآخر: يا ربي! والله ما أعرفه، ما ظلمته بمال ولا بشيء! ما يعرفه، ولكنه ظلمه، وكيف عرف هذا أنه ظلمه؟ الله جل وعلا لا يخفى عليه شيء، أخبره بأن لك حقاً عند فلان، فيطلبه حتى إنه يقول: ما ظلمته بمال ولا بشيء! فيقول: نعم.

ولكنه رآني على منكر فلم ينهني عنه، فخذ لي حقي منه.

لأن حق المسلم على المسلم أن يناصحه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) لا يؤمن الإيمان الواجب الكامل حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وكذلك يحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، فهذا هو المؤمن المسلم.

والمقصود التنبيه على هذا الأمر؛ لأنه يتساهل فيه، ويقع فيه حتى طلبة العلم وللأسف، فطلبة العلم يقعون فيه كثيراً، يكون واحدٌ يتكلم في الثاني، وربما صار ظلماً وإن كان يتكلم بشيء واقع.

وفي المجالس وفي الاجتماعات كثيراً ما يحدث الكلام في فلان وفلان، ويجب أن يتحاشى الإنسان الكلام في الشيء الذي فيه إثم، لماذا يكتسب الإثم بالشيء الذي لا يجدي شيئاً ولا ينفعه؟! الله جل وعلا يأمر المؤمنين بأن يجتنبوا الظن السيئ، وألا يأكل بعضهم لحم بعض، ويخبرهم أن مثل هذا كمثل المؤمن الذي يجد أخاه ميتاً فيجلس يأكل من لحمه بعد موته، فالكلام في عرضه مثل هذا، مثله الله جل وعلا بهذا، وهذا من أبشع ما يستبشع، كيف يكون هذا زاجراً ومانعاً للإنسان من أن يقع في ذلك؟ والقالة التي هي الغيبة منتشرة في الناس كثيراً، ويجب على الإنسان إذا جلس في مجلس، أو سمع من يتكلم في هذا أن ينصحه ويقول: دعوا هذا، تكلموا في الشيء الذي ينفع.

فإن لم ينتصحوا يجب عليه أن يقوم ويتركهم؛ لئلا يكون شريكاً لهم.

أما كون دعوة المظلوم لا تحجب فمعناه أنها تستجاب، أي أنها لا ترد، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، فالله جل وعلا سميع عليم لا يخفى عليه شيء، وسمعه يأتي على جميع الأصوات، حتى إنه يسمع دبيب النملة على الصفاة في ظلمة الليل -تعالى وتقدس-، وكذلك نظره لا يستره شيء، ولكن ما كل دعاء يستجيبه، وإن كان الإنسان في دعائه لا يخيب، بشرط أن تجتمع فيه مقتضيات الإجابة، والله عليم قدير، ولكن المظلوم يستجاب دعاؤه وإن كان فاجراً؛ لأن الله جل وعلا لا يقر الظلم؛ فإن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً، فقال لهم: (لا تظالموا)، فإذا وجد الظلم فإن الله جل وعلا يستجيب للمظلوم إذا دعاه وينتصر له.

والدعاء كله مطلوب، ولكن هناك دعوة مستجابة مثل دعوة المظلوم، ومثل دعوة الوالد على ولده، فإنها تستجاب إذا دعا الوالد على ولده، وقد نهي أن يدعو الوالد على ولده.

وكذلك دعوة المسافر، ودعوة المنكسر القلب الذي يضطر ويقع في ضرورة، فإن هذا من مقتضيات ما يجب لربوبية الله جل وعلا، يقول جل وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:٦٢]، لا أحد إلا هو جل وعلا.

ثم إن المسلم إذا دعا فهو على خير، مطلق الدعوة فيها الخير، فالله جل وعلا كريم، وهو أعلم بمصالح العبد من نفسه، ولهذا جاء في الحديث أن كل داع ما يخيب، إما أن تستجاب دعوته، وإما أن يصرف عنه من السوء ما هو أعظم من الدعوة التي دعا بها، وإما أن تدخر له يوم القيامة، إحدى ثلاث خصال تكون حاصلة له، فلا يقول الإنسان: أنا دعوت ودعوت فما استجيب لي.

وإنما الكلام في كونه يقبل على الله، وكونه يقوم بمقتضى الدعاء، فإن الله يستجيب له وإن كان فاجراً؛ لأن الظلم محرم والله لا يقره، ولهذا يقول العلماء: إن الدولة إذا كانت ظالمة فإنه لا يبقى لها زمن طويل وإن كانت مسلمة، والدولة إذا كانت عادلة فإنه يطول وقتها وإن كانت كافرة.

وهذا عجيب؛ لأن العدل هو الذي قامت به السماوات والأرض، فالظلم يعاقب عليه المسلم، والعدل يجازى به حتى الكافر، هذا لأن الله لا يقر الظلم، تعالى الله وتقدس.

فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، وليس المعنى أن أدعية الناس غير مسموعة لله وأنه لا يراهم ولا يعلم حالهم، لا.

ولكن معناه أن دعاء المظلوم مستجاب.