للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة من خلق الثقلين]

قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]].

في هذه الآية بيان العلة التي من أجلها خُلق الجن والإنس، وهي أن الله جل وعلا خلقهم ليعبدوه، ولهذا قال بعدها: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:٥٧ - ٥٨]، والمعنى أن الله جل وعلا خلقهم للعبادة، وتكفل بما يلزم لحياتهم من الأرزاق والمعافاة في الأبدان وما يصون حياتهم إلى أن يأتي الأجل الذي قدره الله جل وعلا، وليس الرب جل وعلا في خلقه وإيجاده العباد يُقاس على الذين يكتسبون العباد ليكونوا عزاً لهم وقوة أو يتعززون ويتكثرون بهم عند الحاجة، فالله جل وعلا غني بنفسه عن كل ما سواه، وليس هو جل وعلا بحاجة إلى العباد وإلى عبادتهم، وإنما خلقهم ليبتليهم، كما قال جل وعلا في الآية الأخرى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢]، ومن المعلوم أن الله جل وعلا يعلم كل شيء، وعلمه جل وعلا أزلي لا يمكن أن يستجد له علم بعد أن لم يكن، تعالى وتقدس، فعلمه كامل تام في الأزل، وكل الغيوب عنده مثل المشاهدة، وكل ما سيقع قد علمه أزلاً.

يعني أنه علم من يعبد ممن لا يعبد قبل أن يخلقهم، وقد ضل في معنى هذه الآية كثير من المتكلمين الذين يقولون: هذا خبر من الله وقد خالف الواقع، فالله جل وعلا يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، والواقع أن أكثر الناس لا يعبدون، فأين صدق هذا الخبر؟ فنقول: ليس هذا هو المقصود بالآية، بل الآية معناها أن الله جل وعلا أخبرنا أنه خلقنا، وأنه خلقنا لعبادته، ولكن وكَّل العبادة إلينا وطلبها منا، وذلك أن الله جل وعلا جعل في المخلوق عقلاً وفكراً واختياراً وقدرة، وكلفه بالشيء الذي يستطيع فعله، وأمره بأوامر محددة، والناس كلهم بالنسبة للأوامر سواء، فلا تمييز بين كافر ومؤمن.

وقد أخبرنا ربنا جل وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا في أمور خمسة فقط: عبادة الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، وهذه الأمور الخمسة الناس ليسوا فيها سواءً أيضاً؛ لأن بعضهم لا تجب عليه كلها.

أما العبادة فلا يخرج منها أحد من الخلق، فما دام الإنسان قد وصل إلى العقل ووجدت عنده المقدرة فإنه يجب أن يلتزم بعبادة الله دائماً وأبداً، وكلما ازداد علم الإنسان بالله جل وعلا زادت العبادة والخشية عنده، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨] يعني: الخشية التي يستحقها.

وإلا فالخشية توجد من غير العلماء أيضاً، ولكن الخشية الواجبة، فإذا ازداد علم الإنسان ازداد خشية، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني أتقاكم لله وأخشاكم له)، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله جل وعلا، فالخشية الواجبة لا تنفك عن الإنسان، والعبادة هي كل عمل يفعله الإنسان يتقرب به إلى الله، فيجب أن يكون خالصاً لله، كل عمل تفعله تطلب به الثواب وكل شيء تتركه وتخاف أنك لو فعلته لعوقبت فهذا يكون عبادة، فيجب أن تكون العبادة لله وحده، ولا يُشرَك في عبادته شيء لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهذا أمر يعم الخلق كلهم.

والذين يقولون: إن الإنسان إذا ترقى في العلم ووصل إلى درجة العلم اللدني يسقط عنه التكليف هؤلاء يكونون بهذا القول كفاراً خارجين من الدين الإسلامي باتفاق العلماء، ويستدلون على هذا القول الكفري بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩] وما أشبه ذلك من التحريفات، ويقولون: اليقين هو العلم اليقيني الذي تصل به إلى درجة أنك تشاهد الأشياء، فتشاهد ربك، وتشاهد الملائكة، وتشاهد الجنة، وتشاهد النار، والواقع أن الإنسان إذا وصل إلى هذه الحالة فمعنى ذلك أنه يشاهد ربه الذي هو الشيطان، يشاهده على كرسي يجلس بين السماء والأرض أو يجلس على البحر ويزين له أشياء، فيقول له: هذه الجنة وهذه النار، وهذا كذا وكذا، هذا هو الواقع، وأما الآية فمعناها: واعبد ربك حتى يأتيك الموت.

أما بقية الأمور الخمسة فإنه إذا عقل الإنسان وصار مميزاً أمر بالصلاة، وإن كانت لا تجب عليه تدريباً له وتأنيساً، حتى لا ينفر منها ولا تأتيه الأمور بغتة فلا يستطيع القيام بها، وإنما تجب عليه إذا بلغ سن التكليف، ولا تسقط الصلاة بحال إذا وجبت، وما دام عقله موجوداً، فالصلاة واجبة عليه، وهذا يشمل كل إنسان إلا المرأة الحائض والنفساء، والله جل وعلا رحيم، فإذا استطاع الإنسان أن يصلي الصلاة المطلوبة وهو قائم ويركع ويسجد فهذا فرض، وإن لم يستطع صلى وهو جالس، فإن لم يستطع صلى وهو على جنبه، يومئ برأسه إن استطاع أو بعينه بالنية، وإن استطاع أن يتوضأ وجب عليه، وإن لم يستطع تيمم، فما دام عقله موجوداً فالصلاة واجبة عليه.

أما الزكاة فلا تجب إلا على صاحب المال، ولا تجب على المسلمين كلهم، فالذي عنده مال ويبلغ النصاب وحال عليه الحول يجب عليه الزكاة.

وأما الصوم فقد خفف الله جل وعلا عن عباده فجعل الصوم الواجب شهراً في السنة فقط، إلا أن يوجب الإنسان على نفسه شيئاً من نذر وما أشبه ذلك، ثم هو لا يجب إلا على المكلفين العقلاء، ثم إذا مرض الإنسان فإن الله جل وعلا قد رخص له أن يفطر ويأكل ويتقوى ويصوم أياماً أخر، وكذلك المسافر.

وأما الحج فلا يجب إلا على من يستطيع ببدنه وبماله ويأمن طريقه ويجد النفقة لمن يعولهم حتى يرجع، وإذا تخلف شرط من هذه الشروط فالحج ليس واجباً، ولو مات ولم يحج فليس عليه شيء، ولا يجب أن يُحج عنه، والمرأة تزيد على هذا أن تجد لها محرماً ممن تحرم عليه على التأبيد من ابن أو أخ ونحوهما، وكذلك زوجها، ويشترط أن يذهب معها حتى ترجع، فإذا لم تجد محرماً فلا يجب عليها الحج، ولو ماتت ولم تحج على هذه الحالة فليس عليها حج.

فهذه الأمور الخمسة هي التي رُتب عليها دخول الجنة، فإذا جاء بها الإنسان فقد جاء بالحق الواجب عليه الذي أوجبه الله عليه، وهل هذا صعب؟

الجواب

لا.

بل هو سهل جداً، ولكن على من سهله الله عليه، وهذه الأمور جُعلت للناس عامة لم يُخص بها إنسان دون آخر، فلهذا نقول: إن قوله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] يبين، أن الله خلقهم وأخرجهم من العدم إلى الوجود بالطريقة التي أخبرنا جل وعلا بها، وطلب منهم العبادة، وأخبرهم أنه خلقهم لعبادته، ونهاهم أن يعبدوا غيره، وتوعدهم إذا عبدوا غيره، وأراهم ما حل بالكافرين الذي يعبدون غيره من العقاب والعذاب، وكذلك قدم إليهم بالوحي على ألسنة الرسل أن من عبد غير الله فإنه يخلد في جهنم ما دامت السماوات والأرض، فبعد هذا لا يكون للإنسان أي عذر في تركه العبادة وقد وكِّل الأمر إليه، فقيل له: هذه الأمور المطلوبة منك افعلها إن شئت أو لا تفعلها، فإن فعلتها أكرمت وأثبت ونعمت في الدنيا والآخرة، وإن لم تفعلها أهنت وعوقبت وعذبت العذاب الأليم الذي لا يطيقه أحد حتى الجبال، ثم بعد ذلك خُلي الأمر وتُرك إليه؛ لأن عنده الاختيار وعنده المقدرة وعنده الاستطاعة، ولم يكلف الله نفساً إلا ما يسعها وما تطيقه وما تستطيعه.

فإذاً يكون معنى الآية واضحاً، وهو أن الله خلقنا وأوجدنا من العدم وطلب منا أن نعبده، كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] يعني أن الغاية من خلقهم والحكمة من إيجادهم هي العبادة، ثم جعل العبادة إليهم فإن فعلوها فقد فعلوا ما طلب منهم وبه تكون سعادتهم، وإن لم يفعلوها فقد توعدوا وسوف يلقون جزاءهم، وهذا كقوله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:٦٤] فقوله: (ليطاع) هل كل أحد يطيع الرسول؟!

الجواب

لا.

بل أكثر الناس لا يطيعونه، ولكن هذا لا يمنع أن تكون الحكمة لأجل الطاعة، فعلى هذا يكون المعنى جلياً وواضحاً.