للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مآل المشركين في الآخرة]

قال المؤلف رحمه الله: [قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: يذكر الله حال المشركين به في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة حيث جعلوا لله أنداداً أي: أمثالاً ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك).

وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:١٦٥]، ولحبهم لله تعالى وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم لا يشركون به شيئاً، بل يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه، ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة:١٦٥] قال بعضهم: تقدير الكلام: لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعاً أي: إن الحكم لله وحده لا شريك له، فإن جميع الأشياء تحت قهره تعالى وغلبته وسلطانه {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:١٦٥] كما قال تعالى {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:٢٥ - ٢٦] يقول: لو علموا ما يعانون هناك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم، لانتهوا عما هم فيه من الضلال.

ثم أخبر تعالى عن كفرهم بأعوانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين فقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:١٦٦] تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا فتقول الملائكة: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص:٦٣].

ويقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:٤١] والجن أيضاً يتبرءون منهم ويتنصلون عن عبادتهم لهم كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٥ - ٦] انتهى كلامه رحمه الله].

هذا الذي ذكره العماد ابن كثير رحمه الله تضافرت عليه الأدلة من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو واضح وجلي من كلام الله جل وعلا في هذه الآية وغيرها من الآيات الكثيرة، ومضمونه أن كل من أحبّ أحداً -سواء كان ذلك المحبوب عاقلاً أو غير عاقل- في غير طاعة الله فإن هذا الحب يعود عليه بالعداوة، والبعد عن الله جل وعلا، والعذاب، وسوف يتبرأ منه ويصبح عدواً له، وكل واحد يلعن الآخر كما ذكر الله جل وعلا حاكياً عن إبراهيم في قصة إبراهيم: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:٢٥] يعني: العابد يلعن المعبود، والمعبود يلعن العابد.

وكذلك إذا حشرهم الله جل وعلا يوم القيامة، يقول: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:٢٢] يسألهم أن يأتوا بالذين جعلوهم شركاء لله، لكن من أين يأتون بهم؟ {ادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف:١٩٤] فتبرءوا منهم، وكفروا بهم، وأصبحوا أعداء لهم، هذا في العقلاء.

أما غير العقلاء فإنهم كما أخبر الله جل وعلا يكونون حصب جهنم هم والعابدون: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨].

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اجتمع الناس كلهم في مقام واحد، وسألوا الله جل وعلا أن يفصل بينهم، وطلبوا شفاعة الشافعين في هذا، وجاء الله جل وعلا للقضاء بينهم، يخاطبهم، فيقول لهم: أليس عدل مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فكلهم يقول: بلى يا رب! عند ذلك يمثل لكل عابد معبوده، أو يؤتى به بعينه، فيقال: اتبع معبودك، فيتبعونهم إلى جهنم -فيبقى المؤمنون في الموقف وفيهم المنافقون -لأن المنافقين يعبدون الله في الظاهر كما يعبدون معه غيره في الباطن- فيأتيهم الله جل وعلا ويقول لهم: ما الذي أبقاكم وقد ذهب الناس؟ -وهذا يدلنا على أن أكثر الناس ذهبوا من الموقف إلى جهنم- فيقولون: إن لنا رباً ننتظره، فيقول لهم: أنا ربكم) إلى آخره.

وفيه: فإذا تبين لهم خروا له سجداً إلا المنافقين فإنهم لا يستطيعون السجود، يبقى ظهر أحدهم طبقاً واحداً ما يستطيع الانحناء، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه؛ لهذا يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم:٤٢ - ٤٣] يعني: في الدنيا {وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:٤٣] والسجود يجب أن يكون لله وحده، وهم كانوا يسجدون مخافة من المؤمنين، حتى يكونون معهم فيما ينالهم، ويتقون بأسهم، فما كانوا يسجدون لله؛ فلهذا ما استطاعوا.

والمقصود: أن كل عابدٍ سوف يتبرأ من معبوده وكل معبود سوف يتبرأ من عابده.

وقول الله جل وعلا: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:١٦٦]، الأسباب هنا قال العلماء: هي المودة والمحبة التي بينهم، انقطعت وذهبت واستبدلت بعداوة وبغضاء.