للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[محنة الإمام أحمد]

الإمام أحمد رضي الله عنه ممن جعل الله جل وعلا له لسان صدق في الآخرين؛ بسبب تقواه وقيامه بأمر الله جل وعلا، وصبره على البلاء؛ لأن الإمامة في الدين لا تنال إلا بالصبر واليقين، وقد تحلى هو بذلك رضي الله عنه.

وقد ابتلي في دولة المعتزلة، وذلك لما كانت المعتزلة لهم الدولة، وكانوا هم الذين تخرج على أيديهم خلفاء المسلمين، فغروا خلفاء المسلمين، وزينوا لهم الباطل، ثم أمروهم بفتنة الناس وابتلائهم، وكان إذا تردد الخليفة في شيء من الأمر جاءوا إليه يقسمون له، ويحلفون له، ويقولون: إذا كان في هذا الأمر إثم فهو علينا، نحن نتحمله عنك، ويحلفون له بذلك، وقد يقولون: اقتل هذا الرجل وأنت مأجور، وإذا كان فيه إثم فهو علينا.

وقد أمروه بقتل الإمام أحمد وقالوا له مثل ما قالوا لغيره، وصار الأمر صعباً جداً، فهم أمروا الخليفة بأن يمتحن الناس بخلق القرآن، وكل من لم يقل: إن القرآن مخلوق يجب أن يقتل، ولا سيما العلماء، فبدءوا بالعلماء الكبار؛ لأنهم قدوة الناس، فقتلوا خلقاً على ذلك بهذه الفتنة.

أما الموظفون في الجيش أو في القضاء أو في غير ذلك، فإذا لم يجب أحدهم إلى ذلك فإنه يعزل ويطرد ويمنع من العطاء يعني: من بيت المال الذي هو حق لجميع المسلمين، هذا إن لم يقتل، فصارت فتنة عظيمة.

لهذا صار الإنسان يؤتى به مقيداً بالحديد من أول الأمر وإن كان من كبار العلماء، ويؤتى به إليهم في مجالسهم التي فيها من الأبهة ومن الأمور التي تبهر، وليس بينه وبين أن يقتل إلا أن يقال: اقتلوه فقط؛ فلهذا أجاب كثير من العلماء بالقول بأن القرآن مخلوق، وهم يعتقدون أنه كلام الله صفة من صفاته خوفاً من القتل.

وصبر الإمام أحمد على ذلك، وضرب حتى أغمي عليه مراراً، يضرب حتى تسيل الدماء من جسده كله، ثم سجن ما يقرب من سنتين، وكل ذلك وهو صابر، ويقول: القرآن كلام الله، وبذلك جزاه الله جل وعلا في الدنيا قبل الآخرة الذكر الحسن، وكذلك القبول في جميع الأمة، فلا تجد من يتكلم فيه وإن كان مخالفاً له وعدواً له لهذا السبب، وهذا من نصر الله جل وعلا؛ لأنه وعد جل وعلا أن من ينصر الله ينصره.

وقد قتل من نظرائه خلق من العلماء بهذا السبب، قتلوا لأنهم قالوا: إن القرآن كلام الله، ولكن الإمام أحمد لما كان له من الشهرة ومن العلم والقبول عند الناس ثم صبر وقاوم هذه الفتنة العارمة العظيمة؛ جعل الله جل وعلا له من الذكر والقبول ما يناسب ذلك.