للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حديث: (من تعلق شيئاً وكل إليه)

قال الشارح: [وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: (من تعلق شيئاً وكل إليه) رواه أحمد والترمذي].

سبق أن لفظة تعلق تكون بفعل القلب، وتكون بفعل الجوارح، وغالباً تطلق على فعل القلب، ولا سيما في مثل هذا الذي يرجى منه النفع الغيبي ومن الأمر الذي لا يشاهد، فإن هذا يراد به تعلق القلب.

(من تعلق تميمة) يعني: تعلق قلبه بها، بأن رجا أنها تدفع عنه الضر أو تجلب له النفع، ومن فعل هذا فقد رجا غير الله، والتفت إلى غيره، وهذا كما سبق نوع من الشرك.

قال الشارح: [وعبد الله بن عكيم هو بضم المهملة مصغرة، ويكنى أبا معبد الجهني الكوفي، قال البخاري: أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سماع صحيح، وكذا قال أبو حاتم، قال الخطيب: سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة، وكان ثقة، وذكر ابن سعد عن غيره أنه مات في ولاية الحجاج.

قوله: (من تعلق شيئاً وكل إليه) التعلق يكون بالقلب، ويكون بالفعل، ويكون بهما (وكل إليه) أي: وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه].

قوله: (شيئاً) هذا عام، (من تعلق شيئاً وكل إليه)، والمقصود أن الذي يتعلق بغير الله فإن الله يكله إلى ذلك الغير، وإذا وكل الإنسان إلى غير الله فإنه يوكل إلى عوره وإلى ضيعة، فلا يحصل له مقصوده، بخلاف الذي يتعلق بالله جل وعلا، فإنه يكون ناجحاً يحصل له مراده، ويكون مطيعاً في ذلك لله جل وعلا، ويأتيه الخير من حيث لا يحتسب.

ففرق بين من تعلق بالله ومن تعلق بالمخلوقات التي لا تنفع نفسها فضلاً عن غيرها من الأمور التي يتوقع نفعها، أو الأمور التي يتوقع ضررها بأن تدفع، فإن هذا لا يكون إلا بيد الله جل وعلا كما في حديث عبد الله بن عباس: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك) فالأمور كلها بيد الله.

ولكن إذا كان الإنسان يقينه ضعيفاً، وإيمانه ضعيفاً، فإن تعلقه بالله يصبح ضعيفاً، وتجده يتشبث بأدنى سبب يتوهمه، فإذا كان هكذا فإن الله لا يبالي في أي وادٍ هلك.

بخلاف الذي يكون إيمانه قوياً، وثقته بالله قوية، فإنه لا يضره أي توهم يمر به من الشيطان أو من غيره، فإنه يعتمد على الله بعد فعل السبب، فالأسباب مطلوب فعلها، ولكن لا يعتمد عليها، وإنما الاعتماد على الله جل وعلا، فهو إذا شاء جعل السبب مؤثراً، وإذا شاء أبطل السبب وإن كان قوياً، ويصبح لا تأثير له.

فالمقصود أن الأمور كلها بيد الله، فما حصل لك من خير فهو من الله، وإن كان هناك أسباب فالأسباب سببها الرب جل وعلا.

فيجب على العبد أن يكون تعلقه بالله وحده، وألا يلتفت إلى المخلوقات، ولا يعلق قلبه بها، فلا يرجو نفعها أو أن تدفع عنه ضراً، وهذا لا ينافي كونك تستعيذ بمن يقدر على إعانتك ممن هو حاضر عندك، ويستطيع أن يساعدك على عمل ما، فإن هذا غير ممنوع (من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه)، والمسلمون كالجسد الواحد يشد بعضه بعضاً، فلا بد من التعاون، ولكن المقصود بالمنع الأمور الغيبية التي يتوقع نفعها كالشفاء من المرض، وكدفع الآفات، وما أشبه ذلك، فهذه يجب أن يكون التعلق فيها بالله وحده.

قال الشارح: [فمن تعلق بالله، وأنزل حوائجه به، والتجأ إليه، وفوض أمره إليه؛ كفاه، وقرب إليه كل بعيد، ويسر له كل عسير؛ ومن تعلق بغيره، أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك؛ وكله الله إلى ذلك، وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:٣]].

معنى حسبه: يعني: كافيه، من يتوكل على الله فإن الله يكفيه كل ما خافه، ويعطيه ما أمله ورجاه.

قال الشارح: [وقال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن القاسم قال: حدثنا أبو سعيد المؤدب قال: حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت: حدثني حديثاً أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: (نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: يا داود! أما وعزتي وعظمتي! لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له من بينهن مخرجاً، أما وعزتي وعظمتي! لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالى بأيّ أوديتها هلك)].