للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجه اقتران النسك بالصلاة]

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} وجه الدلالة من ذلك أن الله جل وعلا قرن النسك بالصلاة، والنسك هو: الذبيحة التي تذبح تقرباً إلى الله.

فإذا ذبحت الذبيحة تقرباً إلى الله فهي عبادة من أفضل العبادات، وقد قرنت بأشرف العبادات وأعظمها التي هي الصلاة، فيكون جعلها لغير الله جل وعلا من الشرك الأكبر، ووجه الدلالة من ذلك واضح، وقد تكلم العلماء على هذه الآية وما أشبهها وكون الذبائح تقرن بالصلاة، وقالوا: إن الصلاة من أعظم الأفعال والأعمال التي يتقرب بها إلى الله؛ لأنها تشتمل على الدعاء بأنواعه، وتشتمل على القيام والركوع والسجود والقراءة والتكبير والتحميد وغير ذلك، وهي في الواقع صلة بين العبد وبين ربه، وهي أيضاً ما وصل الله جل وعلا به رسوله صلوات الله وسلامه عليه لما قربه إليه وعرج به إلى السماء، ففرض عليه الصلاة، وهذا مما يدل على عظمها وأن شأنها كبير وعظيم جداً، فهي الصلة الكبرى التي وصل الله جل وعلا بها حبيبه صلوات الله وسلامه عليه يوم قربه ورفعه إلى فوق السماوات، ففرضها عليه وأمره بها.

ثم جاءت النصوص الكثيرة التي تحث عليها، وتبين أنها الصلة بين العبد وبين ربه، وأنه إذا قام فيها فإنه يناجي ربه، وإذا رفع يديه وكبر فكأنه يستأذن في الدخول على الله، فهو يقف بين يديه، وعليه أن يعلم أنه يناجي ربه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه فلا يبصقن أمامه).

فالصلاة من أعظم القربات إلى الله، ولهذا يبدأ بها جل وعلا في ذكر الأعمال، ويختم الأعمال بها كما في أول سورة المؤمنين وكذلك في سورة المعارج وغيرهما، وذكر أن الذين هم في صلاتهم خاشعون هم الذين يرثون الفردوس، إلى غير ذلك.

كذلك كونه قرن النسك بها يدل على عظم هذه العبادة، يقول العلماء: يجتمع للإنسان في هاتين العبادتين ما لا يجتمع له في غيرهما؛ لأن في الذبح تقرب إلى الله جل وعلا بإزهاق الأرواح، مع كونه يحب ذلك ويؤثر المال، ومع ذلك يحب أن يتقرب ويكثر من ذلك، والذبح يجعل قلب الإنسان فرحاً بهذا الأمر، ويجعله موقناً بالله، ويجعله مستغنياً بالله، ويحصل له من الحياة ما لا يحصل للذين لا يفعلون ذلك.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الذبح لله، وكثيراً ما يقرب القرابين لله جل وعلا، ففي حجته نحر مائة من الإبل، وكذلك في عمرة الحديبية، وأحياناً كان يرسل الهدي وهو في المدينة ليذبح في مكة، ويوكل من يذبحه، وكذلك كان يضحي في الأضحى، ويتقرب إلى الله جل وعلا بهذا النسك، فكل هذا يدل على أنها عبادة من أشرف العبادات، فكونها تُجعل لغير الله جل وعلا يكون هذا من الشرك الأكبر، لهذا قرنها بالصلاة في قوله جل وعلا: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) ومعنى الصلاة والنسك ظاهر، وأما قوله: (وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) فمعنى ذلك: ما أحيا عليه من الأعمال وآتيه كله أتقرب به إلى الله (وَمَمَاتِي) يعني: ما أموت عليه من الإيمان، والرجاء والخوف، كله لله جل وعلا نيته وفعله وباطنه وظاهره.

وأما قوله جل وعلا: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) فهو مثلها تماماً، أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصلي وينسك له وحده، وقد قال بعض العلماء: إن هذه الصلاة المقصود بها: صلاة العيد، ولكن الظاهر أنها عامة في كل صلاة، فإن الصلاة يجب أن تكون لله جل وعلا، وكذلك النسك يجب أن يكون لله، فإذا كان هكذا فصرفه لغير الله من الشرك الأكبر، وهذه الآية هي كآية سورة الأنعام.

وقوله: (فَصَلِّ) جاءت الفاء مقرونة بالأمر بالصلاة، والسبب: أن الله أنعم عليه وتفضل عليه بقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:١] يعني: الخير الكثير في الدنيا والآخر، فشكر الله جل وعلا هو بالصلاة والنحر له سبحانه.

وأما ما رواه الحاكم عن علي بن أبي طالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما نزلت هذه الآية: (ما هذه النحيرة التي أمرت بها؟ فقال له: ليست هذه نحيرة) إلى آخره، فالحديث هذا موضوع.