للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية]

قال الشارح رحمه الله: [فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في حق المخلص المطيع، وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حق العاصي، فافهم ذلك تنجُ من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم].

يقول المؤلف: إن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة قدرية، وإرادة شرعية أمرية، وإن الفرق بينهما لابد منه حتى ينجو الإنسان مما وقع فيه كثير من أصحاب الكلام الذين وقعوا في الخطأ وعدم التفريق؛ لأن عدم الفرقان يوقع في الخطأ، وهذا يتعلق بالقدر ويتعلق بالخلق والأمر، فهو عام شامل.

فالإرادة الكونية هي المشيئة التي يقول عنها المسلمون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه عقيدة المسلمين، فكل مسلم يعتقد أنه لا يوجد إلا ما شاء الله، وأن الشيء الذي لم يشأه الله هو المعدوم الذي لم يوجد، فهذه المشيئة العامة الشاملة هي الإرادة الكونية، ولا فرق بينهما، بل الإرادة الكونية هي المشيئة العامة، قال الله جل وعلا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:٢٥٣]، فأخبر أن كل شيء يقع من أفعال الناس وغيرهم فإنه يقع بمشيئته، كل حادث يحدث سواء أكان بسبب فعل الإنسان أم كان بسبب آخر فإنه لا يقع إلا بمشيئة الله، ولو شاء الله ما وقع.

ويقول جل وعلا: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥]، فهذه الإرادة في هذه الآية هي المشيئة وهي الإرادة الكونية، فهو جل وعلا يخبر أنه لا أحد يهتدي إلا إذا هداه الله، وكذلك الضلال يُضل سبحانه من يشاء ويهدي من يشاء، كما بين ذلك في آيات كثيرة، ثم هذا لا ينافي كون الإنسان له اختيار وله قدرة؛ لأن الله خلقه وخلق له القدرة التي بها يعمل أعماله باختياره وإرادته التي لا أحد يرغمه عليها، وكل إنسان يجد هذا من نفسه، فالله خالقه وخالق البواعث التي تبعثه على العمل، وخالق القوى التي بها يعمل من الفكر والنظر والأيدي والأرجل والسمع والبصر وغير ذلك، فصح بهذا أن الله خالق الإنسان وخالق أفعاله، وأن خلق أفعال الإنسان لا تخرجه عن كونه مختاراً يفعل ما يفعله باختياره وبقدرته وإرادته.

ثم إن الله جل وعلا برحمته وإحسانه لم يكلف الإنسان إلا ما يطيقه، فكلفه بتكاليف محدده يستطيع أن يفعلها بكل سهولة إذا انقاد لذلك واختاره، ويستطيع أن يتركها، وجعل الأمر إليه، وبين له جل وعلا طريق الهدى وطريق الضلال، وكذلك أرى خلقه ما فعله بمن سبقهم من المثلات من العظات، ولهذا قص علينا قصص الأمم السابقة لنعتبر بها ونتعظ حتى يكون لنا زاجراً وداعياً، فأكرم المؤمنين أتباع الرسل ونصرهم في الدنيا، وكذلك أخبر أنه يكرمهم في الآخرة ويعلي درجاتهم، وكذلك عذب المجرمين المكذبين وأخذهم بأنواع العقوبات وأنواع العذاب، وأخبر أنهم في الآخرة يصلون في النار عذاباً لا يشبه عذاب الدنيا، كل هذا من الدواعي والدوافع التي تدعو الإنسان إلى فعل المأمور وترك المحظور، وكذلك ما وصف الله جل وعلا من أوصاف الجنة وما فيها من النعيم، وأوصاف النار وما فيها من النكال الأليم، كل هذا ليكون ذلك داعياً ودافعاً لفعل المأمورات وترك المحظورات، فبعد هذا لا يكون للإنسان عذر، أما إذا أعرض الإنسان عن الاعتبار بآيات الله سواء آياته جل وعلا القرآنية السمعية أو آياته الأفقية التي منها أَخْذُ المكذبين وإكرام المطيعين، أو الآيات النفسية يعني: الآيات التي في نفس الإنسان؛ لأن نفسه تدله على ربه جل وعلا، كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١]، قال: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:١٧ - ٢٢].

وقال: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:٥]، ففي هذه الآيات يأمرنا جل وعلا أن نعتبر بأنفسنا وننظر إلى خلقنا؛ لأن الخلق عجيب وعجيب جداً يدل على الرب جل وعلا، وفيه عبرة تجعل الإنسان يعتبر، وتجعله يعبد ربه، وإذا أعرض الإنسان عن هذا كله وأصبح شبيهاً بالبهائم يأكل ويشرب ويلعب ويطرب ويعرض عما خُلق له وينسى ما جاءت به الرسل ثم يقول: أنا جاهل ما أعرف فهذا ليس له عذر، وقد قامت عليه الحجة؛ لأنه قد جاءته الرسل وجاءته الآيات والأدلة، ولكن أعرض بنفسه، فاللوم عليه وهو الملوم؛ لأنه فعل ما يلام عليه، وأعرض عما خلق له وأعرض عن آيات ربه.

والمقصود أن الله جل وعلا كل شيء يجري بتقديره وبمشيئته وإرادته، فالمشيئة هي الإرادة الكونية، والإرادة الكونية لا تنافي كون الإنسان مختاراً يفعل باختياره، وكونه يحاسب على عمله إن عمل خيراً جزي به؛ لأنه هو العامل، وإن عمل سوءً عوقب عليه، فلا يكون مثل خصماء الله الذين يخاصمون الله في خلقه اتباع عدوهم الشيطان، فالشيطان خاصم ربه وقال له لما أمره أن يسجد لآدم كما حكى الله عنه: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢]، يعني: إنك ما وضعت الأمور في مواضعها وإنما الصواب ما أراه أنا: أن تأمره أن يسجد لي لأني خير منه؛ لأن أصلي النار وهو أصله الطين، والنار أفضل من الطين هذا قول الشيطان، وهذه خصومة خاصم بها ربه، كذلك المشركون خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شركهم، فقالوا له كما حكى الله عنهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:١٤٨]، أي: أنهم يقولون: إن شركنا وعبادتنا للأصنام وقعت بمشيئة الله، ولو لم يكن راضياً بذلك ما شاءه، هذا معنى كلام المشركين، أي: أنهم اعترضوا على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى دين الله بقضاء الله وبمشيئته، فاعترضوا مثل اعتراض الشيطان، فهو الذي هداهم إلى هذا؛ لأن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فشياطين الجن توحي إلى شياطين الإنس، وبعضهم يوحي إلى بعض، فالواجب على العبد أن يعلم ما أراد الله منه، وأن يعبد الله جل وعلا قدر استطاعته، والله ما كلفه ما لا يستطيع، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، وكل ما ذكره الله جل وعلا عبر، ولا يجوز أن يذهب الإنسان إلى ما ذهب إليه المنحرفون سواء أهل الجفاء أو أهل الغلو.

والناس دائماً عند أوامر الله وعند أحكامه وأقضيته ينقسمون إلى أقسام ثلاثة: قسم يفرط ويترك ما هو واجب عليه، وقسم يتجاوز الحد ويزيد على الحد المشروع فيقع في الخطأ، وقسم يتوسط فيتبع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا في كل الدين والشرع، فهنا من الناس من غلا، كما يذكر عن بعض العباد والمجتهدين أنهم يقولون: ما نعبد الله لأجل جنته أو خوفاً من ناره، وإنما نعبده حباً له.

وهذا خطأ، بل الإنسان ضعيف مسكين لو مسه العذاب ما استطاع أن يصبر عليه، ولا غنى له عن رحمة الله أبداً، والله جل وعلا ذكر لنا الجنة وذكر لنا النار حتى تكون ذلك حادياً وداعياً يحدو إلى العمل ويدعو إليه، وكذلك ذكر ذلك يمنعنا من المخالفات، ولهذا يذكر عن والشبلي رحمه الله - الشبلي كان من المجتهدين ومن العباد المعروفين- أنه كان يقول مثل هذا القول، فابتلي بحبس البول، وحبس بوله فصار يمشي على الأطفال الذين كان يعلمهم القرآن ويقول: استغفروا لشيخكم الكذاب؛ لأنه لما ذاق الألم عرف أنه ما يستطيع أن يصبر على عذاب الله، ومثل هذا هو موعظة تُقدم للإنسان، فالمؤمن يعبد الله طلباً لثوابه وهرباً من عقابه، ويكون عابداً له مخلصاً له في ذلك، والله غني عن العباد، فلا تزيده طاعتهم شيئاً ولا تنقصه معصيتهم ولا تضره تعالى وتقدس، فإن أطاعوا فلأنفسهم، وإن عصوا فعليها، والله تعالى وتقدس غني عن العالمين، ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر الطويل القدسي الذي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: (إن الله تبارك وتعالى يقول: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا -إلى أن قال:- يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، ثم قال في النهاية: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، فالواجب على العبد أن يعرف ربه بأفعاله وأوصافه، ومنها إرادته الكونية، وسميت كونية لأنه يكون الأشياء بها، ويقول للشيء: (كن) فيكون، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] تعالى وتقدس، وقال جل وعلا: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:٤٧]، (بأييدٍ) يعني: بقوة، ما هو بمساح ومجارف وبأدوات رفع أو غيرها، وإنما يقول لها: (كوني) فتكون، وقال سبحانه: {