للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النذر لغير الله وأحكامه]

[باب: من الشرك النذر لغير الله] بعد أن ذكر في الباب الذي قبله أنه لا يجوز الوفاء بنذر لله جل وعلا إذا خصص له مكاناً كان يعبد فيه غير الله، أو كان فيه من طقوس الجاهلية وأوضاعهم التي كانوا يتعارفون عليها، أراد هنا أن يبين أن النذر يكون عبادة، وأن العبادة إذا صرفت لغير الله جل وعلا يكون ذلك من الشرك بالله.

وسبق أن الشرك بالله ينقسم إلى قسمين: شرك أكبر يخرج من الدين الإسلامي، وإذا مات عليه الإنسان يكون من أهل النار خالداً فيها، وإن كان يصوم ويصلي ويحج، لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:٧٢]، فأخبر جل وعلا أن الجنة حرام على المشرك بالله، وكذلك جاء في الآيات الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] فجعل مشيئة المغفرة لمن لم يشرك بالله، أما المشرك فقطع الأمر فيه قطعاً أن الله لا يغفر له.

وهذا هو أعظم الذنوب، وهو الذي جاءت الرسل تحذر منه وتخوف العباد بالنار لمن فعله، وكل رسول يأتي إلى قومه يبدأ دعوتهم بالنذارة من الشرك، ويقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩] فالأمر بعبادة الله نهي عن عبادة غيره، والعبادة سبق أنها تشمل كل ما أمر الله جل وعلا به ورضيه، وأحبه، أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ترك كل ما نهى عنه وأبغضه.

فأراد أن يبين أن النذور التي تقع من كثير من الناس في بلاد المسلمين أنها من الشرك، مثل النذور التي تقدم إلى أصحاب القبور والتي توضع عند الأضرحة، ويقال: إن هذه للولي الفلاني، وللأسف إلى الآن يستمرون على هذا الشرك في كثير من بلاد المسلمين حتى شابه الناس في بعض البلاد المشركين الأوائل الذين أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم: {َجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:١٣٦] يعني: أنهم يجعلون من حروثهم، ومن أنعامهم نصيباً للشركاء، فما أطارت الريح من الزرع والسنابل أو غيرها إلى نصيب الأصنام والأوثان تركوه وقالوا: الله غني وهذه فقيرة.

وأما إذا كان العكس ردوه، فإذا أطارت الريح شيئاً من نصيب الأصنام إلى ما هو مجعول لله ردوه، قالوا: الأصنام فقيرة والله غني عنه.

وهؤلاء وللأسف الآن يجعلون من زروعهم نصيباً للبدوي أو غيره، بل يجعلون من أولادهم نصيباً له، فإذا تزوجت البنت مثلاً جاء بشيء من صداقها ووضعه في صندوق البدوي وقال: هذا نصيبك يا سيد بدوي! ونحو ذلك.

ويجعلون له في السنة ثلاثة موالد يجتمع فيها من الخلق ما الله به عليم، ويحصل من الفساد والاختلاط والشرك بالله جل وعلا ما هو مشاهد، ولا ينكره منكر، وكذلك غيره في بلاد كثيرة، حتى أصبح كثير من الناس لا يعرف إلا السادة، فإذا ضاقت به الضوائق، وحدثت به الحوادث اتجه إلى رفات مقبور تحت التراب، يدعوه ويتضرع إليه يقول: يا سيد فلان أنقذني! وينسى رب العالمين.

هذا ما كان شرك المشركين -شرك أبي جهل وأضرابه- يصل إليه، فشركهم أقل من هذا الشرك؛ لأنهم كانوا إذا حدثت لهم الضوائق والكربات اتجهوا إلى رب العالمين، ونسوا ما كانوا يشركون به، وإذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين، ولكن إذا جاءت العافية، وذهبت الكربات عادوا إلى شركهم، فهذا أقل شركاً من شرك هؤلاء الذين يزعمون أنهم مسلمون.

ومن المؤسف أن العلماء يشاهدونهم ويرونهم في شركهم، وربما شارك بعضهم الناس في الشرك أو يسكت عنهم، والساكت عن الباطل كفاعله، وكل هذا من تقصير المسلمين بعضهم مع بعض.

فهم قصروا في طلب العلم، قصروا في معرفة الله، وقصروا فيما أوجب الله جل وعلا عليهم، مع أن هذا لا يعذر فيه إنسان مهما كان، لا يعذر إنسان في كونه يتجه إلى مقبور يسأله ويتضرع إليه، يقول: أنا جاهل أحتاج إلى تعليم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان التوحيد أصل دعوته، والمسلم يجب أن يعرف ما الذي دعا إليه رسول الله، وإلا كيف يكون مسلماً وهو لا يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.