للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النذر الذي يكون محرماً وشركاً

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: من الشرك النذر لغير الله تعالى].

قال الشارح: [أي: لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لله، فيكون النذر لغير الله تعالى شركاً في العبادة.

وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:٧] الآية دلت على وجوب الوفاء بالنذر، ومدح من فعل ذلك طاعة لله، ووفاءً بما تقرب به إليه.

وقوله: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:٢٧٠].

قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات، من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين به ابتغاء وجهه.

إذا علمت ذلك: فهذه النذور الواقعة من عباد القبور، تقرباً بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم، أو ليشفعوا لهم، كل ذلك شرك في العبادة بلا ريب، كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:١٣٦]].

معنى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ}: أنهم إذا جمعوا هذا النصيب من الحرث -الزرع- أو من التمر أو من غير ذلك، ثم حصل أنه اختلط ما جعلوه لله مع ما هو لشركائهم فإنهم يتركونه لشركائهم، ويقولون: الله غني، وإن قدر أن ما لشركائهم ذهب منه شيء لما جعلوه لله فإنهم يردونه ويقولون: الشركاء يحتاجون والله جل وعلا غني عنه.

هذا كله في زعمهم الكاذب، وإلا فالله ليس له شركاء تعالى وتقدس، وكل شيء ملك لله جل وعلا، ولكنها أوضاع وجدوا عليها آباءهم، فقلدوا آباءهم فجعلوها ديناً وهو شرك بالله، حتى في الربوبية وفي الأمور الظاهرة أشركوا مع الله جل وعلا غيره، وهؤلاء شابهوا أولئك وزادوا عليهم ما أربى على شرك المشركين القدامى بكثير.

قال الشارح: [قال شيخ الإسلام: وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوقات، فإن كلاهما شرك، والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا، ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله).

وقال فيمن نذر للقبور أو نحوها دهناً لتنور به -ويقول: إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين- وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به] الدهن: المقصود به الإسراج عليها بالليل، وهذه أمور بدائية كما هو معروف، يسرجون على القبور بالدهن والزيت فينذرون شيئاً للإيقاد، فينور القبر مثلما تنور المساجد، وهذا محادة لله جل وعلا، أما الآن فأصبحت مصابيح الكهرباء بدلاً عن ذلك، كما هو مشاهد الآن.

[وكذلك إذا نذر مالاً للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن فيهم شبهاً من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله.

والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:٥٢]].

الواقع أن المجاورين لها شياطين يريدون أكل أموال الناس، ووجدوا ناساً شبه بهائم إذا رأوا أن سوقهم قد كسد أوجدوا من الموالد الشيء المعروف، ولهذا يجعلون في السنة ثلاثة موالد، إنسان ولد في السنة ثلاث مرات، ثلاث موالد يجعلونها في السنة حتى تكثر النذور والعطايا التي تأتي من هؤلاء، وهم الذين يسحبون ما في هذه الصناديق، فالميت الرفات ما له علم بذلك، ولا يدري ماذا يجري عنده، قاصر عن هذا كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٥ - ٦] لا يدرون إلا حين يحشرون، وإذا حشروا وسئلوا قيل لهم: أنتم عبدكم الناس في كذا وكذا، فهناك يتبرءون ويكفرون بعبادتهم.

أما الآن فلا يشعرون بالشيء الذي يفعلونه، وإنما هؤلاء الشياطين السدنة هم الذين يوجدون هذه الأمور حتى تدر عليهم الأرزاق، فيأكلون منها ويكونون لهم تجارات ثم يوجدون الأمور والحكايات التي تكثر لهم الأموال في هذا السبيل، وربما ابتلي الإنسان بشياطين تتسلط عليه وتثبت هذا الشرك في قلبه كما هو معروف، وكثيراً ما تحدث الأحوال الشيطانية عند القبور، فإنها تكون حاضرة تدعو إلى هذا وتزينه.

وربما يدعو الإنسان بدعاء فيبتلى فيستجاب، فيظن أن الميت هو الذي أجابه إلى ذلك؛ لأن الله جعل له عهداً؛ أنه إذا سأل شيئاً أعطيه، هكذا يقولون.

ثم ينزلون بهم حاجاتهم وفقرهم، ويسألونهم الرزق والأولاد إذا لم يكن لهم أولاد، ويسألونهم كذلك الشفاعة في الآخرة، وكل هذا ضلال، الله ما جعل بينه وبين عباده وسائط، بل الله جل وعلا أينما دعوته في أي مكان وفي أي وقت، فهو قريب منك؛ قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:١٨٦] هذا شيء.

الشيء الثاني: إن الله علام الغيوب، ومطلع على كل شيء، لا يخفى عليه شيء، ولا يفوته شيء من الكلام، فليس بحاجة إلى من يوكل إليه حاجات العباد، فهذا من التشبيه الذي يكون شركاً بالله جل وعلا، وكونهم يقولون: هذا وسيلة نسأله، ثم هو يسأل لنا الله، يكون ذلك أقرب إلى الإجابة، وهذا هو أصل شرك المشركين.

على كل حال: مثل هذه الشبه لا تنطلي على المسلم، فإنها شبه شركية قديمة، جاء القرآن بإبطالها، والرسل أبطلتها وبينت بطلانها، والعقل كذلك يدل على بطلانها.