للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من آداب الدعاء]

قال الشارح رحمه الله: [فصار الدعاء من أنواع العبادة، فإن قوله: {وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} كقول زكريا: {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:٤]].

معنى قوله: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} أي: أني إذا دعوت ربي فسوف يهب لي ما أريد ولن أشقى؛ لأن الذي يدعو ربه لا يخيب، ولا بد أن يحصل له النفع والخير، سواء في العاجل أو في الآجل.

وكذلك قول زكريا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}، فبدعاء الله جل وعلا لا يشقى الإنسان، فإذا دعا ربه فإنه يهب له ما دعاه، سواء كان عاجلاً أو آجلاً، فلن يشقى الداعي الذي يخلص دعوته لله.

قال الشارح رحمه الله: [وقد أمر الله تعالى به في مواضع من كتابه] يعني: أمر بالدعاء في مواضع كثيرة من كتابه، وكذلك جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالدعاء، وأخبر أن الله إذا لم يدعوه الإنسان يغضب عليه، وهذا من كرم الله وجوده جل وعلا، فإن المخلوق إذا دعوته قد يغضب عليك، وقد يستثقل دعوتك ويكره ذلك؛ لأنه ضعيف وفقير، ومحتاج إلى ما في اليد، فلا يريد أحداً أن يأخذه منه، أو يطلب منه شيئاً.

أما الرب الجواد الكريم فإنه يدعو عباده إلى أن يدعوه، وإذا لم يدعوه غضب عليهم، ويحب الملحين بالدعاء، الذين يكثرون الدعاء ويبالغون فيه، يحبهم جل وعلا لكرمه وجوده.

قال الشارح رحمه الله: [كقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:٥٥ - ٥٦]].

هذا التعليم من ربنا جل وعلا أن يكون دعاؤنا تضرعاً وخفية، يعني: أن يكون في الخفاء، يكون بين الإنسان وربه، وألا يرفع به صوته؛ ولهذا كان السلف يحرصون على إخفاء الدعاء، فيكون دعاؤهم همساً بينهم وبين ربهم جل وعلا؛ امتثالاً لأمر الله، وجاء عن بعضهم أن بين دعاء العلانية ودعاء الخفاء سبعون ضعفاً، فالدعاء في الخفية أفضل؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص، فقد يعرض للإنسان عوارض في الدعاء المسموع الذي يسمعه غيره تعكر عليه إخلاصه؛ ولهذا أمره جل وعلا أن يخفيه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، أما التضرع فهو: الافتقار والذل والخضوع، أن يذل الداعي ويخضع ويظهر فقره لله جل وعلا، هذا هو التضرع إلى الله جل وعلا، وإذا كان الإنسان متصفاً بالتضرع والدعاء بالخفاء فلن تتخلف الإجابة إلا بأمر قدره الله جل وعلا.

وكذلك قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} فهذا أيضاً هذا من الآداب التي علمنا الله جل وعلا في الدعاء، فعلى الإنسان أن تكون دعوته بين الرجاء والخوف، يدعو الله وهو يرجو أن يجيبه، ويتعلق به، ويظن به الخير والإحسان والكرم، ولكنه يخاف من نفسه، يخاف أن تتخلف الإجابة بسبب نفسه؛ لكونه لا يخلص، أو لا يصدق في دعائه، أو كونه يأكل حراماً، أو كونه يكثر الذنوب، وما أشبه ذلك من العوارض التي لا يخلو منها إنسان، والمقصود الأدب مع الله جل وعلا في هذه العبادة التي يعلمنا الله جل وعلا إياها.