للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[على الإنسان أن يسعى في فكاك نفسه وخلاصها من العذاب]

ومعلوم أن الهدى في كتاب الله جلَّ وعلا، وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وهذا بين وواضح ليس به خفاء، وإنما يقع في مثل هذه الأمور الجُهَّال، الذين لم يهتدوا بنور كتاب الله جلَّ وعلا، ولم يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم في ذلك -في الواقع- مقصرون؛ لأنهم تركوا ما يجب عليهم أن يهتموا به؛ فإن الواجب على الإنسان أن يعتني بأمر دينه أكثر من اعتنائه بأمر دنياه، ولا يجوز للعاقل أن تكون الدنيا عنده أهم من أمر آخرته، وأمر دينه.

ومعلوم أن الجزاء يقع على فعل الإنسان في حال حياته، أما إذا مات فقد انتهى الأمر، ولا يمكن أن يُستعتب الإنسان بعد موته ويُثاب عليه، ويَطلب المغفرة لنفسه فيُغفر له! قد انتهى الأمر، وقد جاء النذير إلى الناس، جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة وبلغهم، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من بلغه ذكره أنه قد وصل إليه البلاغ، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يسمع بي أحمر أو أبيض ثم لا يؤمن بي إلَّا أقحمه الله النار) فعلَّق ذلك بمجرد السماع بذكره؛ لأن العاقل إذا سمع بذلك وجب عليه أن يبحث وجب عليه أن يتعلم دينه ويعرفه، وهو ميسور والحمد لله، وليس صعباً، وكذلك يقول الله جلَّ وعلا: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:١٩]، فمن بلغه القرآن -بلغته ألفاظُه- فقد وصلت إليه الحجة وقامت عليه، فعليه هو أن يجتهد في معرفة الحق، وقد جعل الله جلَّ وعلا في الناس عقولاً وأفكاراً، فيجب أن يستعملوا عقولهم وأفكارهم فيما ينفعهم، لا أن يستعملوها في أمر الدنيا فقط، فالدنيا أمرها سهل وميسور، وهي عابرة وزائلة بسرعة، ولكن الأهوال بعد الموت؛ لأن الإنسان ما خلق ليفنى وما خلق ليموت بل خلق للبقاء السرمدي الذي لا نهاية له، ففي حياته الدنيوية إما أن يكتسب السعادة، وإما أن يجلب إلى نفسه الشقاء الأبدي، وليس هناك طريق ثالث، لأن الاستقرار بعد حشر الناس وجمعهم يوم القيامة إما في الجنة وإما في النار، ولا توجد منزلة ثالثة، ثم دخول الجنة ودخول النار ليس مؤقتاً ولا محدداً بفترة، لا بألف سنة ولا بمليون سنة ولا بمائة مليون سنة، بل حياة إلى أبد الآباد: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود:١٠٧]، والمصيبة أن الذي يوضع في النار لا يمكن أن يموت: {لا يَمُوتُ فِيْهَا وَلا يَحْيَا} [طه:٧٤] {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودَاً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:٥٦]، وكلما: للتكرار الذي لا نهاية له.

فإذا كان الأمر هكذا: فإنه يجب على العاقل أن يسعى في فكاك نفسه، وفي خلاصها من العذاب، وفي تحصيل السعادة الأبدية التي لا تشبهها أي سعادة يعرفها الإنسان في هذه الدنيا، فإن الإنسان إذا عمل بتقوى الله وبطاعته وبرضاه، وقبل الله منه ذلك، فإنه يكون جاراً لله جلَّ وعلا في الجنة، وملائكة الله تخدمه، وتدخل عليه مسلمة وتقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:٢٤]، فكيف يذهب العاقل يتعلق بمخلوق ضعيف مثله، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟! هذا لا يليق بالعاقل، بل يجب أن يكون تعلقه بالخالق جلَّ وعلا بالرب الكريم بالجواد الرحيم بالذي بيده ملكوت كل شيء، وقد استدل ربنا جلَّ وعلا على المشركين في كونهم يقرون بأن الله جلَّ وعلا هو المتصرف وحده: بوجوب إخلاص العبادة له في آيات كثيرة سيأتي شيء منها إن شاء الله.

[فإنه جلَّ ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المتفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، القادر على إيصال الخير، فهو المتفرد بذلك، فإذا تعين هو جلَّ ذكره خرج غيره من ملَك ونبي وولي قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية: في قتال أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه، كقولهم: يا لَزيد! ويا لَلمسلمين! بحسب الأفعال الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد: كالمرض، وخوف الغرق، والضيق، والفقر، وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله، لا يُطلب فيها غيره قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجُهَّال، وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات، فمن اعتقد أن لغير الله -من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك- في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيراً فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير، وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشَ لله أن يكون أولياء الله بهذه المثابة! فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمان قال تعالى: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:١٨]، وقال: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣]، وقال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئَاً وَلا يُنقِذُونِ} [يس:٢٣]، فإنَّ ذِكْرَ ما ليس من شأنه نفع ولا دفع الضر -من نبي وولي وغيره- على وجه الإمداد منه: إشراكٌ مع الله؛ إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلَّا خيره].