للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح قوله: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٥ - ٦].

]: قوله جلَّ وعلا: ((وَمَنْ أَضَلُّ)) (من) هنا: استفهام، والاستفهام معناه: أنه ليس هناك ضلال، فهذا استفهام يدل على أن من فعل هذا الفعل قد تناهى في الضلال، وليس وراء هذا الضلال ضلال.

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:٥]، وهذه صفة كل مدعو بدعاء لا يستطيع تلبيته وإجابة المطلوب فيه، سواء كان حياً أو ميتاً، وسواءً كان عاقلاً أو جماداً، فإن معنى: {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف:٥] أي: لا يحصل له الرد والالتفات والاهتمام بدعوته، أما حصول الشيء المطلوب فإنه لا يحصل من هؤلاء، بل وصوله مستحيل، وهذا يكون فيمن كان غائباً غالباً، ويكون فيمن كان ميتاً، أما من كان حاضراً فهو إما أن يكون طاغوتاً من أكبر الطواغيت مثل الشيطان الذي يدعو الإنسان إلى أن يعبده، ويغره ثم يتبرأ منه فيكون كاذباً، وإن استجاب له فهي استجابة وهمية؛ ولكن الاستجابة الحقيقية إذا سأله الله، وقال له: هذا يدعوك وهذا يعبدك.

ويقول للعابد: اطلب من هذا المعبود ما كنت تطلبه منه في الدنيا، فهنا تكون الإجابة بالتبري، ولعن كل واحد منهما الآخر، ويتبرأ منه ويلعنه ويصبح له عدواً كافراً بفعله، وهذا ضلال متناهٍ ليس بعده ضلال، ولهذا قال الله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:٥]، والاستجابة يوم القيامة ليست في حصول المطلوب، وإنما هي أن يلعنه ويتبرأ منه، ويكفر به ويصبح عدواً له، كما قال الله جلَّ وعلا في الآية الأخرى في قصة إبراهيم: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً} [العنكبوت:٢٥]، وهذا لأنه استعمل النعم واستعمل حياته في غير ما خلقت له، بل عكس القضية تماماً، فصار هذا جزاؤه، الذي استحقه، وهذه الآية عامة في كل مدعو من دون الله، فإنه لن يستطيع الإجابة الحقيقية ولا يتحصل الداعي على حقيقة دعوته إلا يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة اطلع على ذلك تماماً، وعرف أنه ليس عنده إلَّا الضلال والخسران، وهناك تكون الحسرة، ويتبين له أنه في سعيه وعمله متبع للشيطان، مبتعد عن ربه جلَّ وعلا الذي خلقه لعبادته.

قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:٥] يعني: في هذه الدنيا غافلون عن دعوته؛ لأنه إما غائب وإما ميت وإما جماد لا يدري ماذا يُدعى، فهو غافل؛ لأنه مسخر في شيء يسير فيه مطيعاً لله جلَّ وعلا، لا يدري عن الذي يدعوه شيئاً، فهو غافل عنه، أما إن كان من العقلاء فإن كان صالحاً فهو لا يرضى بهذا، ويكفر بذلك في الدنيا قبل الآخرة؛ ولكن إذا كان لا يطلع فهو لا يعلم، وإنما يُسأل يوم القيامة، ولهذا يسأل الله جلَّ وعلا الملائكة يوم القيامة عمن يدعونهم فيقول إذا حشرهم وجمعهم: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:٤٠] فيسأل المعبود قبل العابد، فيقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:٤١] يعني: الشياطين التي أمرتهم بهذه العبادة، وكذلك الآيات الأُخَر التي تبين هذا المعنى، فالمعبود غافل؛ لأنه إما أن يشتغل بطاعة الله وتسخير الله جلَّ وعلا، أو أنه ميت لا يدري عن داعيه شيئاً ولا يحس به، أو أنه جماد لا يحس ولا يشعر، وليس عنده شعور ولا إحساس.

إذاً: إذا كان يوم القيامة وحصحص الحق هناك يتبين لهذا الداعي أنه من أضل خلق الله، بل هو أضلهم كما في هذه الآية: {وَمَنْ أَضَلُّ}.

وقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف:٦] الحشر هو: الجمع، والمقصود بالحشر: إحياؤهم بعد أن ماتوا، ثم جمعهم في مكان واحد على الأرض، والحشر يدل على الجمع الذي يكون بقوة، ولا يكون لهم فيه اختيار.

فالمحشورون لا اختيار لهم في ذلك، لأنه من الله جلَّ وعلا، فهم في ذلك في أشد الخوف، وهذا هو اليوم الذي ينذرنا ربنا جلَّ وعلا إياه كثيراً ويخوفنا به، ويخبرنا أنه يوم ثقيل على الكافرين، وفي ذلك اليوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع ذات الحمل حملها، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج:٢]، كأنهم سكارى {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:٢] ولكنهم يخافون عذاب الله {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:٢] أي: في ذلك اليوم، فهناك يتبين من هو المالك من هو الذي يتصرف من الذي بيده الأمر كله، وكل الخلق ليس عندهم شيء كلهم ضعفاء كلهم تحت قهره داخلين كل واحد منهم يأتي ربه فرداً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً في أشد الخوف، حتى إن رسل الله يخافون في ذلك اليوم.

{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف:٦]، أي: كان الذي يزعم أنه يقربه إلى الله زلفى وأنه يتوسط له، وأنه يشفع له عدواً له! ومعلوم أن العدو لا يريد نفع عدوه بل يريد أن يضره.

{كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ} [الأحقاف:٦] يعني: بدعائهم الذي يدعونه ((كَافِرِيْنَ)) وهذا يدلنا على أن الدعاء عبادة؛ لأنه ذكر في الآية الأولى لفظ الدعاء: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو} [الأحقاف:٥]، وفي الآية الأخرى التي تليها ذكر أنه عبادة: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٦] يعني: الدعاء الذي سبق، فدلت الآية صراحةً بأن الدعاء عبادة، بل هو أفضل العبادة وخيرها كما سبق، وهذه الآية من أوضح الأدلة على بطلان دعوة غير الله، وأنها ضلال، بل ضلال متناهٍ ليس بعده ضلال.