للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحقيقة والمجاز في ألفاظ القرآن]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وليس هذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعمال في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعاً، وهذا يأتي في مسألة الصلاة، وأنها نقلت عن مسماها في اللغة، وصارت حقيقة شرعية، واستعملت في هذه العبادة مجازاً؛ للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي، وهي باقية على الوضع اللغوي]: هذا على القول بالمجاز، وأن المجاز موجود، والصواب أن المجاز هذا محدَث، لم يعرفه أهل اللغة الذين تكلموا فيها وتواضعوا عليها، وإنما جاء به الأعاجم الذين جاءوا بعد فساد الألسنة، وزعموا أن أصل الوضع على الحقيقة ثم نُقل إلى غير ذلك المعنى، وهذا يحتاج إلى دليل، ولن يستطيع الإنسان أن يأتي بدليل على هذا، وقالوا مثلاً: قوله جلَّ وعلا: {جِدَارَاً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:٧٧] الأصل أن الإرادة للعاقل فقط، هذا الذي وضعت عليه اللغة، ثم نقل ذلك من باب الاستعارة، فجعلت الإرادة للجدار من هذا الباب -من باب الاستعارة- وهو من نوع المجاز، ويقال لهم: من أين لكم هذا؟ الجدار له إرادة تناسبه، وكل شيء له إرادة، فميله هذا هو الإرادة، وهو الذي يُفهم من اللغة، وكذلك قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:٨٢]، زعموا أن القرية هي المباني والمباني لا تُسأل، وإنما جاءت الاستعارة وجاء المجاز من ذلك فاستعمل، والسؤال يوجه في الأصل إلى من يرد على السؤال ويعقله، ثم نقل إلى ما لا يعقل من باب المجاز، وكذلك قوله: {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف:٨٢]، العير: هي الإبل، والعير لا يتجه إليها السؤال، فوجه السؤال إليها وأريد سائقيها وقائديها وراكبيها من باب الاستعارة، وللعلاقة التي بين هذا وهذا، فيقال أيضاً: هذه دعوى، والذين وضعوا اللغة يفهمون هذا الخطاب بدون هذه الأشياء ولا تخطر لهم ببال، فالقرية في اللغة ما تسمى قرية بمجرد الحيطان إلَّا بقيد، مثلما قال الله جلَّ وعلا: {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:٢٥٩]، (قرية خاوية على عروشها) إذا كانت مقيدة بهذا فنعم، أما إذا قيل: قرية، فلا تكون قرية إلا وفيها سكان، وإلا فلا تسمى قرية، وكذلك لفظة (العير) فالإبل بمفردها لا تسمى عيراً، وإنما تسمى كذلك إذا كان معها السائق والقائد والراكب ومن يصلحها ويدبرها، هنا تسمى عيراً، فيكون المفهوم من قوله: (اسأل العير)، يعني: اسأل جميع من فيها، ولا تخص واحداً أو اثنين، فليس هناك مجاز ولا غيره.

ثم هؤلاء طردوا هذا في جميع ما جاء في القرآن فقالوا أيضاً في الشيء الذي يكون باطلاً قطعاً في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً} [الفجر:٢٢] قالوا: هذا من المجاز، وكذلك في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:٢١٠] قالوا: أيضاً هذا مجاز، والله لا يجيء، وإنما المراد: وجاء أمر ربك، أو جاء عذاب ربك، أو ما أشبه ذلك، وعلى هذا الأساس نفوا صفات الله جلَّ وعلا، ولهذا قال البعض: إن المجاز واقع في اللغة إلَّا في صفات الله؛ لأنه تبين لهم أن هذا باطل قطعاً، وأنه يتضمن الإلحاد، فقالوا هذا القول، وهذه دعوى أيضاً، فإذا كان المجاز في اللغة فسيقال أنه أيضاً في القرآن فلا يخص شيئاً دون شيء؛ ولكن الصواب مثلما قال العلماء الذين أنكروا هذا: أن هذا أسلوب من أساليب اللغة العربية، وتسميته مجازاً اصطلاح حادث اصطلح عليه، ولا يوافَقون على ذلك، والذين أنكروه هم الذين معهم الحق.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وضُم إليها أركان وشرائط، فعلى ما قررنا لا حاجة إلى شيء من ذلك، فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء: إما دعاء عبادة وثناء أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داعٍ.

(انتهى ملخصاً من البدائع)].