للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاحتجاج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [فتأمل هذه الآيات يتبين لك أن الله تعالى احتج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه من قصر العبادة جميعها عليه، كما في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] قال أبو جعفر بن جرير: قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:٦٢] يقول تعالى ذكره: أم ما تشركون بالله خير، أم الذي يجيب المضطر إذا دعاه وَيَكْشِفُ السُّوءَ النازل به عنه؟ وقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:٦٢] يقول: يستخلف بعد أمواتكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم.

وقوله: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)): أإله سواه يفعل هذه الأشياء بكم، وينعم عليكم هذه النعم؟ وقوله: {قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:٦٢] يقول: تذكراً قليلاً من عظمة الله وأياديه عندكم، تذكرون وتعتبرون حجج الله عليكم يسيراً، ولذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.

انتهى]: ومن لازم ذلك -أي: من لازم هذه الأمور التي ذكر-: أن المعبودات التي تُعبد من دون الله لا تملك من هذا شيئاً فعبادتها ضلال، وهذا لازم هذه الاحتجاجات، وفيها إبطال كل شرك وقع فيه الإنسان وقصر العبادة له؛ بأن ينال العابد مطلوبه وينجو من مرهوبه، وليس يفعل ذلك إلَّا الله وحده جلَّ وعلا، سواءً كان الذي يُتوجه إليه بالعبادة من الجمادات أو من الملائكة أو من الأنبياء أو من الأولياء أو من غيرهم، فكلهم لا يملكون شيئاً مما ذكره الله جلَّ وعلا، وإنما الملك بيد الله، وكلهم عبيد لله جلَّ وعلا تجري عليهم أحكامه، كما قال جلَّ وعلا في الملائكة وغيرهم إذا حشر العابدين معهم: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:٤٠]، فيتبرءون منهم ويقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:٤١] يعني: أن الشياطين التي أمرتهم بهذه العبادة -في الواقع- عبادة المشركين وقعت عليهم، ويقول جلَّ وعلا مبيناً أن الأمور كلها بمشيئته وإرادته: {كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً} [مريم:٩٣] أي: كل من في السماوات والأرض سيأتيه ذليلاً خاضعاً.

والعبد هنا: بمعنى المعبَّد المذلًَّل الخاضع، وليس بمعنى العابد الذي عبد؛ لأن العبد يُطلق على معنيين: الأول: بمعنى: معبَّد مذلَّل، تجري عليه أحكام الرب الذي استعبده، ولا يعترض على شيء أراده الله جلَّ وعلا قدراً ومشيئة.

الثاني: بمعنى: عابد، أي: أنه يعبد باختياره، وهذا الذي ينفع، أما الأول فلا ينفع؛ لأن معناه أن السلطان كله لله جلَّ وعلا، والإنسان وسائر العقلاء من الملائكة وغيرهم ليس لهم أي تصرف، وإنما يأتون إليه خاضعين، وهذه حالة لازمة لهم؛ ولكن في ذلك اليوم -أعني يوم القيامة- يظهر جلياً عبادة الخلق له جلَّ وعلا وذلهم وخضوعهم له، وهو اليوم الذي يقول جلَّ وعلا فيه: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئَاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:١٩]، أما في هذا الوقت وفي هذه الحياة فقد جعل للمخلوق شيئاً مما ملَّكه، وجعل له اختياراً ومقدرةً، وجعل الأمر إليه بعدما بين له طريق الهدى من طريق الضلال، وقيل له: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩]، هكذا يخاطب الله عباده، وليس معنى ذلك التخيير؛ ولكنك مُكِّنتَ من العمل فاختر لنفسك ما ترى فيه فكاكك وخلاصك، وإن كان الإنسان لا يمكن أن يستقل بشيء دون إرادة الله ومشيئته؛ ولكن يتبين من قصد الإنسان ونيته وإرادته للخير أو للشر، فإن كان يريد الخير فإن الله ييسره لليسرى، وإن كان يريد الشر فلن يعجز الله ولن يفوته، ولا يجني إلَّا على نفسه، وهذا هو معنى الإثابة ومعنى العذاب؛ لأنه يثاب على فعله الذي يقع باختياره، ويعذب على فعله الذي يقع باختياره، أما إذا كان ليس له اختيار فهنا يُرفع العذاب عنه، ولهذا يُرتَّب كل ما يجري في الآخرة على ما يكون في هذه الحياة، فالعبد بمعنى العابد وهذا هو المعنى الذي ينفع، أما العبد بمعنى المعبَّد المذلَّل المسخر فهذا لا ينفع شيئاً، وهذا يجري على جميع الخلق.

والمقصود: أن المعبودات كلها التي يتجه إليها الإنسان في طلبه سواءً كانت من الجن، أو كانت من الملائكة، أو كانت من الأنبياء والرسل، أو من غير ذلك مما هو أقل قدراً من الجمادات أو الحيوانات؛ فإنها كلها لا تنفع، بل لا تملك لأنفسها نفعاً ولا تدفع عنها ضراً، فكيف يجوز للعاقل أن يتجه إليها أو يتعلق بها؟! وما أكثر ما يبين الله جلَّ وعلا هذا للخلق! ولكنهم قد يعمَون عن الحق، خاصة إذا كان الإنسان سالكاً طريقاً معيناً ووجد عليه آباءه وقومه وأهل بلده؛ فإنه لا يستطيع الخلاص إلَّا إذا أراد الله جلَّ وعلا له الهداية.