للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالتوحيد والتجريد يكون العمل مقبولاً عند الله

قال الشارح رحمه الله تعالى: [كما جرى على ألسنة كثير من الشعراء كـ البوصيري والبرعي وغيرهم من الاستغاثة بمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ويعرضون عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء، الذي له الخلق والأمر وحده، وله الملك وحده، لا إله غيره، ولا رب سواه، قال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:١٨٨] في مواضع من القرآن: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلا رَشَدَاً} [الجن:٢١].

فأعرض هؤلاء عن القرآن، واعتقدوا نقيض ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات، وتبعهم على ذلك الضلال الخلق الكثير والجم الغفير؛ فاعتقدوا الشرك بالله ديناً، والهدى ضلالاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فما أعظمها من مصيبة عمت بها البلوى! فعاندوا أهل التوحيد، وبدَّعوا أهل التجريد، فالله المستعان!].

أهل التوحيد: هم الذين أخلصوا العبادة لله، وأما أهل التجريد: فهم الذين أخلصوا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار قولهم وفعلهم متابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

يعني: جردوا المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وتركوا الناس، فلا ينظرون إلى أحد مهما كان من العبادة ومن العلم، إلا إذا كان قوله موافقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان مخالفاً فلا يلتفتون إليه مهما كان، ومن المعلوم قطعاً عند المسلمين: أن المعصوم في أقواله وأفعاله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، أما ما عداه من الخلق -مهما أُعطي من العلم، ومن التعبد، ومن القبول عند الناس- فإنه غير معصوم.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).

أي: الذين إذا أخطئوا تابوا ورجعوا إلى الله جلَّ وعلا.

والمقصود: أن الإنسان جُعل الأمر إليه، وقد بُين له الحق من الباطل، فإذا تبين للإنسان الحق وجب عليه اتباعه، وإذا لم يتبعه فهو لا يضير أحداً شيئاً، ولا يضر الله جلَّ وعلا شيئاً، وإنما يضر نفسه؛ لأنه يكتسب بأعماله إما القرب إلى الله وحسن الثواب عنده، أو يكتسب بأعماله القرب من الشيطان والبعد من الله، ويكون بذلك قد تحصل على شدة العذاب الذي يلاقيه يوم القيامة: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:١٤]، وفي هذا المعنى يقول الله جلَّ وعلا للخلق: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩]، وقال بعد ذلك: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارَاً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:٢٩]، نسأل الله العافية، والمهل هو: الماء الذي يتقطع من الغليان، إذا دخل في البطون قطع الأمعاء ومزقها، وإذا قرب من الوجوه شواها، ثم العذاب مستمر ودائم {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرَاً} [الإسراء:٩٧] نسأل الله العافية.

فكيف يصبر الإنسان على هذا؟! كيف يستطيع الصبر؟! كيف لا يسعى في نجاته؟! وكما قيل: عجبت لمن آمن بوجود النار وحقيقتها، وأنه وارد إليها، كيف لا ينام عن المعاصي؟! وكيف لا يهرب؟! وعجبت لمن آمن بالجنة ونعيمها، كيف ينام عنها ولا يطلبها؟! مع أن المعروف لدى الناس لو قيل لإنسان: لو ذهبت إلى البلد الذي يبعد عنك -مثلاً- ألف كيلو أو أكثر، وبعت فيه بضاعة لربحت بدل الريال مائة ريال، ثم تعود وليس هناك أي مشاكل تواجهك.

لو قيل له هذا لما كان له أن يتخلف، ولو تخلف عن هذا الذهاب لقيل له: مجنون، لا يعرف مصلحته! فكيف والإنسان يؤمن إيماناً يقينياً بأنه سيموت، ثم يُبعث، ثم يجزى، ثم يبقى حياً أبد الآبدين، إما في نعيم وإما في عذاب لماذا لا يسعى في خلاص نفسه؟! إن أهم ما يسعى إليه الإنسان: أن يجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخلص العبادة لله فقط، فإذا مات الإنسان على التوحيد وليس عنده شرك، فإنه يرجى له الخير، وإن كان عاصياً، المهم أن يموت موحداً لله، عابداً لله ليس عنده شرك، وإن كان مقصراً في ترك الواجبات وفي فعل المحرمات، أما إذا كان من عباد الله الذين يخلصون له العبادة، ويؤدون الواجب، ويجتنبون المحرم، فهذا من الذين {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:٦٢].

إن الإنسان مهما اجتهد لا يضمن أن يكون عملُه مقبولاً، أو أن عملَه ليس مدخولاً -مدخولاً في نيته وقصده أو في عمله- لا يضمن ذلك أبداً، فلهذا ينبغي أن يجتهد، ثم يتوكل على الله جلَّ وعلا حق الاتكال والاعتماد، ويكون متعلقاً به وبرجائه وبدعوته دائماً، متضرعاً ذالَّاً له، يسأله حاجته التي لا غنى له عنها، فهو الغني عمن سواه، ومع ذلك يدعو العباد إلى دعوته، ويدعوهم إلى مغفرته وجنته: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:٢٥] جلَّ وعلا.

ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلَّا من أبى)، أهناك أحد يقال له: تعال إلى الجنة ويأبى؟! يقول: (كلكم يدخل الجنة إلَّا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).

إذاً: الجنة لها ثمن، وهي: طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فالرسول جاء بالهدى من عند الله، وعلى الإنسان أن يخلص نفسه: (والناس كلهم إما رائحون أو غادون -يعني: من هذه الدار إما أن يذهبوا مساءً أو صباحاً ولا بد، فإذا ذهبوا- فكلهم بائع نفسه فمعتقها أو موبقها) يعني: مشتريها بطاعة الله أو مشتريها بطاعة الشيطان.