للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شرح قوله: (أيشركون مالا يخلق شيئاً وهم يخلقون)

في هذا الباب وهو قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرَاً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:١٩١ - ١٩٢] يبين سبحانه حالة المدعو من دون الله مطلقاً، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأنه لو أصابه الله جلَّ وعلا بإدالة عدو أو تسليط أو ما أشبه ذلك لا يستطيع أن ينصر من يدعوه ولا أن ينصر نفسه، وهذه حال كل مدعو من دون الله، سواءً كان عاقلاً أو غير عاقل، وسواءً كان من المقربين إلى الله جلَّ وعلا: كالرسل والملائكة أو من هو أقل منهم كالأولياء، أو كان عبداً مسخراً خلقه الله جلَّ وعلا لعبادته القدرية: كالشمس والقمر والنجوم والشجر وغيرها، فإنها كلها بهذه المثابة.

يعني: أنها مخلوقة، الله خلقها، وإذا كانت مخلوقة فهي فقيرة من الأصل؛ لأن كل مخلوق كان معدوماً لا وجود له، فأوجده الخالق جلَّ وعلا، فهو يتصرف فيه كيف يشاء، ثم إن هذه المخلوقات لا تخلق شيئاً.

والمقصود بالخلق هنا: إيجاد الشيء من العدم، وليس الخلق الذي يطلقه بعض الناس على بعض أفعال الناس، وهو إطلاق فيه إيهام، وإنما المراد بالخلق هنا: الإيجاد.

أي: إيجاد الشيء من العدم، وهذا لا يمكن لغير الله جلَّ وعلا، كما قال الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئَاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:٧٣]، فهذه حالة كل معبود من دون الله، ولهذا ضرب الله جلَّ وعلا هذا المثل؛ ليبين ويوضح للعقلاء الذين عندهم فكر وتأمل.

والشارح رحمه الله أراد بهذا الباب أن يبين للذين يتعلقون بالقبور، ويتجهون إلى أصحابها، وقد صاروا رفاتاً أمواتاً، أن أرواحهم مرتَهنة عند الله، لا تستطيع أن تجيء أو تتصرف كما يزعمون، فإنهم يزعمون أن للأولياء تصرفات، وأنهم يسمعون الدعوات، ويغيثون اللهفات، وهذا كله باطل ليس لهم عليه برهان ولا دليل، وإنما هي مجرد ظنون واتباع للأهواء والآباء، والله جلَّ وعلا أصدق قيلاً، وأعلم بما يقوله جلَّ وعلا، وأعلم بما يقع في الكون، فهذا كتابه واضح جلي خاطب به عباده، وخطابه يتوجه لكل مكلف، ويجب أن يُفهم قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤] ولا ينبغي للعبد أن يعرض عن تعلم ما ينجيه ويخلصه من النار ثم إذا أُحضر يوم القيامة مع من يتعلق به ويدعوه، فيقول حينها: ما تعلمت، وما دريت، أو أن فلاناً أضلني، أو أني اتبعت رؤسائي وكبرائي، فإن هذا لا يجديه شيئاً، فإن الرؤساء تتبرأ منه أيضاً، وهو أيضاً يعود باللوم على رؤسائه وكبرائه من العلماء والمقدمين وغيرهم؛ ولكن لا يفيد اللوم ولا اللعن ولا غير ذلك؛ لأن الله منَّ على العبد بأن جعل له عقلاً، ثم أرسل إليه رسولاً، ثم بين له بكتابه -الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- الحق بياناً واضحاً، وجعل فيه الهدى والشفاء، وليس لمن ابتغى الهدى من الخلق نصيب من ذلك.

هذا هو مراده في ذكر هذه الآية، ومعنى الآية على ما قال المفسرون: أن هذا الاستفهام خرج للتوبيخ.

أي: لتوبيخ المشركين وتعنيفهم، حيث عبدوا من كان مخلوقاً، ثم إنه لا يخلق، ثم إنه لا يستطيع نصر نفسه فضلاً عن أن ينصر من دعاه، وهذه الأمور يجب أن تتوافر في المعبود، وأن يكون المعبود أولاً بلا بداية، وآخراً بلا نهاية، غني بنفسه عما سواه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:٣]، وأن يكون مالكاً للنفع والضر، ومالكاً للنصر على العدو، والإعزار لمن تعلق به وطلب العزة منه، أما إذا فُقد شيء من ذلك فعبادته ضلال.

إذاً: هو احتجاج عليهم، وتوبيخ لهم، وتقريع لما فعلوه، حيث اتجهوا إلى ما اتجهوا إليه من المخلوقات حسب تنوعهم في عباداتهم، فمنهم من يعبد الشجر، ومنهم من يعبد القبور، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء، وكلهم سواء في هذا، وكلهم ضلوا، وكلهم أشركوا بالله جلَّ وعلا، وظلموا وتنقصوا الله جلَّ وعلا، وجعلوا حقه للمخلوق الذي هو متعبَّد لله جلَّ وعلا، كما أن العابد متعبد الله.

هذا معنى ما ذكره المفسرون في هذه الآية.