للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصته عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحادية عشرة: قصة صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤].

أما قصته صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤] فقد مضى شرحها، وهي: أنه صلوات الله وسلامه عليه خاف أن يكون قصر في أمر ربه؛ لأنه أمره أن ينذر، فقام يصيح في الناس: واصباحاه! حتى اجتمعوا عنده، فسألهم وقال: (أرأيتم لو أخبرتكم بخبر هل كنتم مصدقي؟ قالوا: نعم.

لم نجرب عليك كذبة واحدة، فقال: إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد، أنقذوا أنفسكم من النار وصار يخصهم بعد التعميم، يعني: يعم قريشاً كلها ثم يخصص: يا بني فلان! يا بني فلان! إلى أن وصل إلى قوله: يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أنفذي نفسك من النار، لا أغني عنك من الله شيئاً)، وسبق أن هذا دليل واضح على أن العبادة والملك كله بيد الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له مع الله شيء من الإلهية أو الربوبية، بل الربوبية والإلهية كلها بيد الله جلَّ وعلا وهو من يستحقها، وتعبَّد عباده بها، فمن جعل منها شيئاً للرسول صلى الله عليه وسلم فقد ضل ووقع في الشرك.

[الثانية عشرة: جِده صلى الله عليه وسلم بحيث فعل ما نُسب بسببه إلى الجنون وكذلك لو يفعله مسلم الآن]: أراد أن يقول: إن فِعْله هذا الذي فعله: (من صعوده على الصفا، وصار يهتف: واصباحاه) -لأن هذه كانت عادة عند العرب، يفعلها مَن عاين الجيش أو العدو، وأراد أن يخبر قومه بذلك، قام وفعل مثل هذا الفعل- ولما سألوه: ما عندك؟ أخبرهم أنه ينذرهم عذاب الله الذي يستقبلهم، فنسبوه إلى الجنون، كما قال عمه أبو لهب: (ألهذا جمعتنا؟! تباً لك سائر هذا اليوم) وأكثرهم قالوا: هذا مجنون؛ لأن العذاب الذي وعدهم به من قبل الله -سواءً عاجلاً أو آجلاً- استبعدوه، وصاروا يقولون: ما نرى العذاب، وعذاب الله يأتي في لحظة؛ لأنه يقول للشيء: كن فيكون؛ ولكن الإنسان ظلوم جهول، فلهذا نسبوه إلى الجنون، وقول المصنف: لو أن أحداً قاله اليوم لنُسب كذلك إلى الجنون، يعني: لو أن إنساناً قام في الناس، وقال: يا أيها الناس! إنكم وقعتم في المعاصي فاتقوا الله، وإن العذاب يكاد أن يصل إليكم، وصار ينذرهم بهذا الشيء، لقالوا: هذا مجنون! مثلما هو واقع للرسل، والرسل كلهم يقال لهم ذلك، كما قال الله جلَّ وعلا: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:٤٣]، وكل أمة قد قالت لرسولها: إنك مجنون، والمجنون معناه: الذي لابسه الجن، وأصبح يهذي بما لا يدري، لكونه قد غُلب على عقله؛ لأن الجن يسيطرون على عقله، وقد يتكلم الجني على لسانه، فيهذي بكلام لا يُعقل ولا يُعرف، وهذا شيء لا ينكره إلا الجهلة.

[الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: (لا أغني عنك من الله شيئاً) حتى قال: (يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئاً) فإذا صرح -وهو سيد المرسلين- بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلَّا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم تبين له التوحيد وغربة الدين].

قصد بقوله: (خواص الناس) أن هناك علماء -ويقال لهم: علماء؛ لأنهم يكتبون ويؤلفون ويشرحون: في التفسير والحديث وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كتباً تُنشر للناس ويقرءونها- دعاة إلى الشرك، يقولون: إنه لا فرق بين كونك تستغيث بالله أو تستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكلاهما سواء، فيجوز لك أن تستغيث بالرسول، كما يجوز لك أن تستشفع به وتتوجه إليه، أو تتوجه به إلى الله وتدعو الله به، أو تدعوه وتطلب منه الشفاعة؛ لأن الله أعطاه الشفاعة، وهذا كله شرك؛ لأنه ليس هناك فرق بين من يفعل هذا ويقوله وبين المشركين القدامى؛ وقد سبق لنا أن عرفنا أن شرك المشركين القدامى كان بطلبهم من أصنامهم ومن معبوداتهم -سواءً كانت من الملائكة كما سيأتي أو من الأموات أو من الأنبياء أو من الصالحين- أن يتوسطوا لهم ويشفعوا لهم عند الله فقط، هذا هو شركهم، ولا يوجد إنسان عاقل زعم أن مخلوقاً من المخلوقات شارك الله جلَّ وعلا في الخلق والإيجاد والتدبير، كخلق الجنة أو النار، أو خلق الناس أو الملائكة أو السحاب، أو إنزال المطر وإنبات النبات، ليس هناك أحد اعتقد هذا أبداً، وإنما شركهم الذي وقعوا فيه هو أنهم جعلوا بينهم وبين الله وسائط يدعونها، وكانوا يقولون: إنها تقربنا إلى الله، وتدنينا إلى الله، وتشفع لنا إذا سألناها، وإذا دعوناها وطلبنا منها فهي بدورها تدعو الله؛ لأنها مقربة عند الله، هذا هو شركهم.

فهؤلاء الذين يقولون هذا القول -في الواقع- ليس هناك فرق بين قولهم وبين قول المشركين القدامى، وهذا مقصوده بـ (خواص الناس) يقول: إذا نظر الإنسان إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم لبنته فاطمة رضوان الله عليها التي هي سيدة نساء أهل الجنة، وآمن بأنه لا يقول إلَّا الحق صلوات الله وسلامه عليه، ثم نظر إلى ما يقوله هؤلاء ستتبين له غربة الدين، ويتبين له التوحيد، وهذا هو المطلوب في هذا الباب، وسيأتي في الباب الذي بعده زيادة بيان لذلك.