للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إثبات صفة الكلام لله جل وعلا]

قال الشارح: [قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:٢٣] أي: زال الفزع عنها، قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي والحاكم وغيرهم.

وقال ابن جرير: قال بعضهم: الذي فُزِّع عن قلوبهم: الملائكة، قالوا: وإنما فُزِّع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي.

وقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل على الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم بل هم عبدة مسلمون لله أبداً يعني: منقادون، {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:٢٣] والمراد: الملائكة، على ما اختاره ابن جرير وغيره.

قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه، لصحة الأحاديث فيه والآثار.

وقال أبو حيان: تظاهرت الأحايث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:٢٣] إنما هي في الملائكة، إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة، قال: وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآية تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ:٢٢] لم تتصل له هذه الآية بما قبلها.

وقوله: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:٢٣] ولم يقولوا: ماذا خلق ربنا؟ ولو كان كلام الله مخلوقاً لقالوا: ماذا خلق؟ انتهى من شرح سنن ابن ماجة].

وهذا من الأمور التي انطلت على من تغيرت فطرته، وهذه من الفتن التي وقع فيها بعض المسلمين قديماً، حيث أنكروا أن يكون الرب جلَّ وعلا متكلماً، كما أنكروا أن يكون متصفاً بالصفات، ومعلوم أن هذا نقص في حق الله، وإنما أتوا من ناحية الشبهات التي تعلقوا بها فقالوا: إن الله لا يتكلم، وهذا نص صريح بأن الله يقول: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:٢٣]، فهو يقول ويكلم عباده ويخاطب ملائكته، ويأمر وينهى، ومعلوم أن الذي يتكلم أكمل ممن لا يتكلم؛ ولهذا عاب الله جلَّ وعلا على المشركين كونهم يدعون ومن لا يرد عليهم جواباً، من لا يسمع ولا يبصر؛ لأن هذا نقص، والمدعو يجب أن يكون سامعاً لدعوة داعيه، ويجب أن يكون قادراً على حمايته، وعلى إنزال الخير له، وإزالة ما نزل به من الشر، وإلَّا كانت دعوته غير صالحة وغير صحيحة، والأدلة على هذا كثيرة جداً، والحمد لله فإن هذه الفتنة قد زالت وانتهت، ولا يقول بها إلَّا أهل البدع الذين بقيت عندهم البقايا من مذهب الجهمية، والمعتزلة الذين ألحقوا الله جلَّ وعلا بالجمادات، وعطلوه عن صفاته، وجعلوه ناقصاً تعالى الله وتقدس، فمعلوم أن الله جلَّ وعلا هو القادر على كل شيء، وأن الرسالة بأمره ونهيه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان الصحابة يرفعون أصواتهم بدعاء ربهم: (أربعوا على أنفسكم! فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) وهذه عقيدة المسلمين التي يعتقدونها، وكل مسلم يدعو ربه سراً ويعلم علماً يقينياً أن ربه يسمعه، وكل مسلم يعلم أن الله يكلم عباده يوم القيامة فيخاطب أحدهم ويقول: يا عبدي! ألم أنعم عليك؟ ألم أصح بدنك؟ ألم أعطك المال؟ ألم أزوجك؟ فماذا فعلت؟ كما في الحديث الصحيح: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) أي: يكلمه بلا واسطة، وهذا التكليم في آن واحد، كل الخلق يكلمهم الله جلَّ وعلا في آن واحد، وكل واحد يرى أنه يكلم وحده فقط، وذلك أن أفعال الله لا تقاس بأفعال المخلوقين تعالى الله وتقدس، فهو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وهو القادر على كل شيء.

والمقصود: أن وصف الله جلَّ وعلا بالكلام أمر مستقر في قلوب عباد الله وفي فطرهم، وأدلة ذلك كثيرة جداً في كتاب الله، وفي أخبار الرسل، من أولهم إلى آخرهم، فمنكره مكابر ومصادِم لما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم بل عن رسل الله كلهم، وقد قال الله جلَّ وعلا في قصة موسى بعد أن ذكر الرسل قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً} [النساء:١٦٤] يعني: كلمه في الدنيا، وفضله على الخلق بالمخاطبة، وقد سمع موسى كلام الله بلا واسطة، وكان موسى في الأرض والله فوق عرشه جلَّ وعلا، وإذا كان يوم القيامة فإن الله جلَّ وعلا يأتي لفصل القضاء بين عباده إلى الأرض، وهو على عرشه، ويكلمهم ويخاطبهم، والذي ينكر الكلام معناه أنه ينكر الرسالة، وينكر قدرة الله، ويلحق الله جلَّ وعلا بالناقصات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!