للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إثبات كلام الله لملائكته وبعض عباده]

قوله: (إذا قضى الله الأمر في السماء) أي: إذا تكلم، والأمر هو كلامه ووحيه.

وقوله: (كأنه سلسلة على صفوان): الصفوان هو: الصخر الأملس، والسلسلة: حِلَقٌ الحديد، يُدخَل بعضُها في بعض، فإذا جُرَّت على الصفوان صار لها صوت، وهذا تشبيه للصوت المسموع، وليس تشبيها لله جلَّ وعلا، وإنما هو للصوت الذي يُسمع، وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (هل نرى ربنا؟ قال: نعم، ترونه كما ترون القمر ليلة البدر ليس بينكم وبينه سحاب) فشبَّه الرؤية في وضوحها وجلائها برؤية القمر في وقت تمامه وكِبَره، وهنا شبَّه الصوت الذي تسمعه الملائكة كصوت السلسلة التي تُجر على الصفا، ومعنى ذلك: أنهم سمعوا صوتاً لم يميزوا شيئاً من المعاني فيه، وقد علموا أنه صوت كلام الله إذا أمر، ولهذا السبب صُعقوا وصاروا يسألون بعدما زال الصعق عنهم: ماذا قال الله؟ علموا أنه قول الله.

وقوله: (ينفذهم ذلك) يعني: أن هذا يمضي فيهم كلهم، كلهم يسمعون، وكلهم يصعقون.

وكذلك يدل أيضاً على أن الله جلَّ وعلا إذا أوحى بالأمر أن السماء نفسها تشعر بذلك وتعلمه، ثم يصيبها رجفة شديدة خوفاً من الله جلَّ وعلا، وهذا دليل واضح على أن الله يتكلم تعالى وتقدس؛ ولكن كلامه يتعلق بمشيئته، يتكلم إذا شاء بما يشاء، ويكلم من يشاء، ولقد جاءت الأدلة بإثبات كلامه جلَّ وعلا لملائكته ورسله، بل لأفراد الناس من أهل الجنة، يكلم بعضَهم بمفرده، ففي صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوماً جالساً مع أصحابه، وكان عندهم أعرابي، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من أهل الجنة يستأذن ربه ويقول: يا رب! أريد أن أزرع، فيقول الله جلَّ وعلا له: ألست فيما تريد وما تشتهي؟ فيقول: بلى يا رب، ولكني أريد الزرع، فيقول الله جلَّ وعلا: دونك فازرع، فيزرع وينبت الزرع ويخرج، ثم يستوي، ثم يتكدس حباً كأمثال الجبال، فيقول الله جلَّ وعلا: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يملأ بطنك إلَّا التراب.

عند ذلك قال الأعرابي: يا رسول الله! تجد هذا إما أنصارياً أو مهاجرياً، أما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم).

فالمقصود: أن الله يكلم بعضَ عباده من أهل الجنة، وفي الصحيح أيضاً: (آخر من يخرج من النار -من أهل التوحيد؛ لأن أهل التوحيد العصاة منهم من يدخل النار تطهيراً لذنوبه ثم يُخرج من النار- رجل يحبس قرب النار ووجهه مقبل على النار، فيدعو ربه: يا رب! يا رب! اصرف وجهي عن النار، يا رب! اصرف وجهي عن النار، لا أسألك غير هذا.

فيقول الله جلَّ وعلا: لعلك أن تسأل غيره! فيقول: لا وعزتك، لا أسألك غير هذا، فيصرف الله جلَّ وعلا وجهه عن النار.

ثم تُرفع له شجرة خضراء حسناء فإذا رآها يصبر ما شاء الله أن يصبر، ثم يقول: يا رب! أوصلني إلى تلك الشجرة لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، ويدعو ربه، فيقول الله جلَّ وعلا له: يا ابن آدم! ألم تعطِ العهود والمواثيق ألا تسأل غير ما سألت؟ فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك، والله يعلم أنه يرى ما لا صبر له عليه، فيعذره، فيقول: لعلك إن أعطيتك ما سألت أن تسأل غيره! فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيعطي ربه العهود والمواثيق أنه لا يسأل غير هذا السؤال، فيوصله إلى هذه الشجرة فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ويأكل من ثمارها، ثم تُرفع له شجرة هي أحسن منها، فيراها ويتصبر ولكنه لا يصبر، فيقول: يا رب! أوصلني إلى تلك الشجرة؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، ويدعو ربه، ويقول الله جلَّ وعلا له: يا ابن آدم، ويلك! ما أغدرك! ألم تعطِ العهود أنك لا تسأل غير ما سألت؟ فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك، فيقول الله جلَّ وعلا له: لعلك تسأل غيرها! فيقول: لا وعزتك، والله لا أسألك غيرها، ويعطي العهود والمواثيق أنه لا يسأل غيرها، فيعطيه الله جلَّ وعلا ذلك، ويوصله إليها، فإذا وصل إليها رأى الجنة، فإذا رآها انفتح بابها، ورأى ما في داخلها، عند ذلك لا يصبر، فيقول: يا رب! يا رب! أدخلني الجنة، ويسأل ما شاء الله أن يسأل، فيقول الله جلَّ وعلا: ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك! -ما أكثر غدرك! - ألم تعطِ العهود أنك لا تسأل غير ما سألت؟ فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك، فيقول: اذهب فادخل الجنه، فيذهب، فإذا وصل إلى الجنة خُيِّل إليه أنها ملأى -أنها مملوءة لم يبق فيها مكان- فيعود ويقول: يا رب! إنها ملأى -لم يبق فيها مكان- فيقول الله جلَّ وعلا: أترضى أن يكون لك مثل الدنيا؟ فيقول: يا رب! أتسخر بي وأنت رب العالمين؟! عند ذلك ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تسألوني ممَّ أضحك! قالوا: مم تضحك يا رسول الله؟! قال: أضحك من ضحك رب العالمين، فإنه إذا قال: أتسخر بي وأنت رب العالمين؟! يضحك الله ويقول: لا؛ ولكني على ما أشاء قدير، لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها معها)، وهذا هو أدنى أهل الجنة منزلة، فهذه محاورة بين الرب جلَّ وعلا وبين العبد.

وهكذا إذا شاء الله أن يتكلم تكلم، ولا يمنعه أحد من الكلام تعالى وتقدس، فالذين لا يصفونه بالكلام ويزعمون أنهم يعظمونه بذلك؛ في الواقع أنهم يعطِّلوه عن صفاته التي وصف بها نفسه، وتعرَّف بها إلى عباده تعالى وتقدس، فعباده عرفوه بذلك أنه يتكلم ويُكلم ويخاطب، ويحاسب عباده يوم القيامة، ويقررهم بذنوبهم، ويعفو عمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويأمر ملائكته بما يشاء، فهو جلَّ وعلا يتكلم بما شاء، والكلام من صفاته الثابتة، وهي من صفات الكمال.