للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استراق الشياطين للسمع من العنان]

قوله في الحديث: (إذا تكلم جلَّ وعلا بالوحي الذي يوحيه إلى الملائكة فإن مسترقي السمع يركب بعضُهم بعضاً -يعني: الشياطين- فيستمعون ماذا قالت الملائكة الذين أُمروا بالأمر الذي يأمرهم الله جلَّ وعلا به، فيأخذون الكلمات من الملائكة مما يتحدثون بها، فيُلقيها الأعلى للذي تحته لأنهم يركب بعضُهم بعضاً، كما فعل سفيان - حيث صفَّ أصابعه وبدَّدها يعني: فرَّق بينها وحرَّكها.

إذاً: الشياطين يركب بعضُهم على بعض حتى يصلوا إلى العنان، فهم لا يصلون إلى السماء؛ ولكن جاء في صحيح البخاري: (أن الملائكة تنزل إلى العنان) والعنان هو: السحاب، تنزل الملائكة لإنزال الغيث وتصريف السحاب؛ لأن السحاب يُصرَّف من الملائكة، فما ينزل قطر المطر إلَّا بتكليف، فيتكلمون بالأمر الذي أمروا به، فتكون الشياطين راكبة بعضها على بعض، ويستمعون ماذا تقول الملائكة، فيأخذ الأعلى الكلمة التي يسمعها فيلقيها إلى من تحته، والذي تحته يلقيها إلى من تحته بسرعة خوفاً من الشهاب الذي ينزل عليهم، فإذا فعلوا ذلك نزل عليهم الشهاب، وربما أصاب الشيطانَ فقتله، وربما خبله.

قال الشارح: [وعند أبي داود وغيره مرفوعاً: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيُصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل) الحديث.

قوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ): تقدم معناه.

قوله: (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ) أي: قالوا: قال الله الحق، علموا أنه لا يقول إلَّا الحق.

قوله: (فيسمعها مسترق السمع) أي: يسمع الكلمة التي قضاها الله، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضاً.

قوله: (ومسترق السمع هكذا -وصفه سفيان بكفه-) أي: وصف ركوب بعضهم فوق بعض، وسفيان هو: ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وله إحدى وتسعون سنة.

قوله: (فحرفها): بحاء مهملة وراء مشددة وفاء.

قوله: (وبدَّد) أي: فرَّق بين أصابعه.

قوله: (فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته) أي: يسمع الفوقاني الكلمة، فيلقيها إلى آخر تحته، ثم يلقيها إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن.

قوله: (فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها) الشهاب هو: النجم الذي يُرمى به، أي: ربما أدرك الشهابُ المسترقَ وهذا يدل على أن الرمي بالشهب كان قبل المبعث، لما روى أحمد وغيره -والسياق له في المسند من طريق معمر -: أنبأنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من أصحابه -قال عبد الرزاق: من الأنصار- قال: فرُمي بنجم عظيم؛ فاستنار، قال: ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول: لعله يولد عظيم أو يموت عظيم -قلتُ للزهري: أكان يُرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم.

ولكن غلظت حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم- قال: فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته؛ ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا، ثم يستخبر أهلُ السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماءً، حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع، فيرمون، فما جاءوا به على وجهه فهو حق؛ ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون.

قال عبد الله: قال أبي: قال عبد الرزاق: ويُخطف الجن ويرمَون.

وفي رواية له: لكنهم يزيدون فيه ويقرفون ويُنقصون).

قوله: (فيكذب معها مائة كذبة) أي: الكاهن أو الساحر]: في هذا الحديث إضافة إلى ما سبق أن الملائكة عباد يمتثلون أمر الله جلَّ وعلا، ويخضعون لقوله، ويذلون له، ويزيد خضوعهم وذلهم عندما يسمعون كلام الله بالوحي، خوفاً من أن تقوم الساعة، بأن يأمر الله جلَّ وعلا إسرافيل بالنفخ في الصور، وكل هذا خوف من عذابه جلَّ وعلا، وخشية منه، مع أنهم يطيعونه ولا يعصونه فيما أمرهم به، بل يفعلون ما يؤمرون، ومع ذلك يخافون خوفاً شديداً.

والملائكة كما سبق هم من أعظم خلق الله جلَّ وعلا، يدل على هذا ما ذكره الله جلَّ وعلا في صفاتهم، مثلاً: جبريل عليه السلام اقتلع مدائن قوم لوط، وحملها على طرف جناحه، وطار بها حتى صار الذين في عنان السماء من الملائكة -يعني: في السحاب- يسمعون نباح الكلاب، وصياح الديكة، عند ذلك قلبها وجعل عاليها سافلها، ثم أُمطروا بحجارة من سجيل، وكذلك صاح بقوم صالح صيحة؛ فتقطعت قلوبهم في أجوافهم، صيحة واحدة! وهذا يدل على قوته وعِظَمه، ومع ذلك يخضع لله ذليلاً خاشعاً حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يُروى عنه في حديث الإسراء والمعراج: (أنه رآه لاصقاً كالحلس من خشية الله جلَّ وعلا)؛ لأن من كان بالله أعرف كان له أخوف.

وكل هذا يدل على أنه لا يجوز قصدهم أو التوجه إليهم بشيء من العبادة، وإنما العبادة تكون لله جلَّ وعلا وحده، وكذلك غيره من الملائكة، وقد جاء في خلقهم وعِظَم ذلك أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وما ذكره من أن الله جلَّ وعلا يتكلم بالوحي يدلنا على أن كلامه تسمعه الملائكة، وأنهم في أول الأمر يسمعون شيئاً لا يفقهونه، ويعلمون أنه كلام الله؛ ولكن لا يدرون ماذا قال؛ ولهذا يسألون جبريل عليه السلام الذي أُمر بأمر الله جلَّ وعلا أن يمضي بالوحي حيث أمره الله جلَّ وعلا، فيجيبهم قائلاً: قال الحق، ثم يجاوبونه كلهم: قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:٢٣]، وهو جلَّ وعلا يقول إذا شاء، ويتكلم ويقول بما شاء، وكلامه يتعلق بمشيئته إذا شاء أن يتكلم تكلم، وهذا من صفات الكمال التي يوصف بها ربنا جلَّ وعلا.