للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قتل الأولاد خشية الفقر من الكبائر العظيمة]

قال تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) الإملاق: هو الفقر.

أي: لا تقتلوهم خوفاً من الفقر، فإن الأمر ليس إليكم؛ فإن الله تكفل برزقهم.

ولهذا قال: (نحن نرزقكم وإياهم)، فأخبر أن رزق الوالدين ورزق الأولاد على الله ليس على الناس، فالإنسان لا يجوز أن يكون نظره إلى أن الرزق يأتي من كد يده ومن صنعته ومن حسن تصرفه، كما يقوله كثير من الناس الذين يضيف أحدهم الأمر إليه، بل يجب أن يجعل الأمر لله جل وعلا.

وقوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) جاء هذا لأن بعض العرب -وليس كلهم- كانوا يقتلون أولادهم خوفاً من الفقر، وبعضهم كان يقتل البنات فقط خوفاً من العار، وليس من الفقر، والعار معناه عندهم أنهم يخشون أن تزني، فيصبح هذا عاراً على أبيها وأهلها، فكانوا يئدونها ويدفنونها حية، كما قال الله جل وعلا: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:٨ - ٩] يعني: هل لها ذنب وهي بنت صغيرة حتى تدفن حية؟! ووجه هذا السؤال إليها لعظم الأمر حتى يعرف الظالم مقامه، فكان بعضهم يصنع هذا، فيئدون البنات خوفاً من العار، وبعضهم كان يقتل حتى الذكور خوفاً من الفقر إذا كثروا، وهذه قد أصبح الكفار ينشرونها بين المسلمين، وهي سنة الجاهلية السابقة أصبح الكفار من اليهود والنصارى أعداء الله وأعداء دينه ينشرونها في بلاد المسلمين، ويروجون أن كثرة الأولاد لا تنبغي، وينبغي أن الإنسان يرتب نسله خوفاً من أنه لا يستطيع التربية، ولا يستطيع تعليمهم، ولا يستطيع القيام بحقوقهم، وأن الأرض سوف تضيق بهم، وأن الأرزاق سوف تقل ثم يأتي الجوع فيموت الناس جوعاً فيقولون: بعد كذا سنة سوف يموت كذا وكذا من الآلاف أو من الملايين جوعاً.

ويتصرفون في ملك الله، ويظنون أن الأمور بأيديهم، وكل هذا أريد به السوء للمسلمين فقط، أما الكفار فلا يوجد هذا عندهم، بل في بعض دول الكفر يجعلون مكافأة لمن يكون له مولود، وكلما ولد له مولود آخر أوجدوا له مكافأة ووظيفة، فهم يشجعون كثرة المواليد، فكيف يوجهون المسلمين وهم يقتلونهم؟! والأوضاع الحاضرة لا تخفى، فالمسلمون يقتلون في كل مكان كتقتيل الأنعام، وليس لهم قيمة عند هؤلاء الكفار، وكل ذلك لأن المسلمين في الواقع تركوا أمر الله وصاروا غثاء كغثاء السيل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.

قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا، أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوبكم ويقذف في قلوبكم الوهن.

قيل: يا رسول! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، وهذا هو الداء الذي وقع فيه كثير من المسلمين اليوم، وهذا خلاف ما كان عليه السلف الصالح وما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فلما استعصت بعض الحصون على خالد بن الوليد صار يخاطبهم ويقول: (يا هؤلاء! والله! لقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة، اصنعوا ما شئتم فلن تفلتوا من أيدينا)، وكان أحدهم إذا سقط قتيلاً بسلاح العدو يهنئونه قائلين: هنيئاً لك الشهادة.

وكل واحد يود لو أنه مكانه، وكانوا يحبون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة، فإذا وجد هذا في المسلمين اليوم فلن تقوم أمامهم أمريكا ولا غيرها من الدول الكافرة، ولن تستطيع أن تقوم في وجوههم؛ بشرط أن يلتزموا بأمر الله جل وعلا كما قال سبحانه: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:٧]، وهذا وعد من الله، والله لا يخلف وعده، فهذا شرط لا يتحقق إلا إذا وجد المشروط، فإذا وجد نصر الله منا والثبات على دينه وجد نصر الله لنا، أما أن نعرض عن دين ربنا جل وعلا ويصبح ديننا بين التهاتر والتباغض والتقاطع وحب الذات وجلب المنافع للإنسان نفسه حتى على حساب الآخرين فالواقع أنه لا يكون لنا ميزة، ولما ذهب عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى قتال الروم في مصر احتاج إلى مدد وزيادة جنود؛ لأن الروم أعدوا أكثر من مائة ألف مقاتل، والذين كانوا معه لا يتجاوزون عشرين ألفاً، فكتب كتاباً إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستنجده ويقول: أريد عشرين ألفاً.

أو قال: أربعين ألفاً، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: (ما عندنا أمداد مما تذكر، ونحن لا نقاتل بعددنا ولا بعدتنا، وإنما نقاتل بإيماننا وبوعد الله لنا، ولكن احترس من الذنوب أشد من احتراسك من عدوك، واعلم أن النصر بيد الله، فإذا اتقيتم الله جل وعلا وأخلصتم له فسوف ينصركم، وإني ممدك بأربعة رجال فقط)، فأرسل له أربعة بدل هذا العدد الذي طلبه، وكانت وصيته أنه قال له: احترس من الذنوب أشد من احتراسك من عدوك؛ فإنها هي التي تنصر العدو عليكم، فميزة المسلمين يكونوا ملتزمين بأمر الله جل وعلا، أما إذا فرطوا فقد جاء في أثر يروى يقول الله جل وعلا فيه: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني)، والذي لا يعرف الله أمرُهُ منتهٍ، ولكن الذي يعرف الله كيف يعصيه؟! فإذا عصى صارت العقوبة أقرب وأسرع إليه، وإن كان مآله في الآخرة ليس كمآل هؤلاء، ولكن يكون عقاباً عاجلاً.

والمقصود أن قول الله جل وعلا: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:١٥١] عام شامل حتى في الذي يخاف أنه إذا ولد له أولاد أنه يحدث له الفقر، أو يحدث له القلة، وأنه لا يستطيع القيام عليهم، وهذا أمر قد تكفل الله جل وعلا به، كما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد)، فيكتب الرزق وهو في بطن أمه، فكيف يستطيع أحد أن يرد رزقه؟! بل هو مكتوب مفروغ منه، وقد رزقه وهو لم يخلق بعد، ولا يمكن أن يغير أو يبدل ما كتبه الله جل وعلا، ولكن بلا شك أن الله جعل لكل شيء سبباً، وأن الله هيأ الأسباب وأمر بفعلها، فنقول: أنت عليك فعل السبب والأمر، وحصول النتائج على الله، فيجب أن تتكل على ربك في ذلك، ولا يكون الفقر نصب العينين.

وجاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك.

قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك.

قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك)، ولو سأله أيضاً عن شيء آخر لأخبره، ولكنه سكت.

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم الذنوب أن يشرك الإنسان بالله جل وعلا، وأن يجعل لله نداً وهو خلقه، وهو المتصرف في خلقه المتوحد بذلك ليس له شريك، وهو الذي هيأ له الحياة ومستلزماتها.

وقوله بعد هذا: ثم أي؟ يعني: ما هو الذنب الذي يلي هذا في العظم؟ فقال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، يعني: خوفاً من الفقر.

وذكر هنا أعظم القتل وأشنعه، وإلا فالقتل كله محرم كما سيأتي، ولكن الجبلة التي جبل الله جل وعلا عليها الخلق أن الإنسان يحنو على ولده ويرحمه ويحسن إليه، فإذا جعل بدل الحنو عليه والرحمة له والإحسان إليه إساءة انقلبت الأمور واشتد الذنب وصار العقاب أعظم.

وكذلك الزنا، فالزنا فيه من المفاسد ما فيه كما هو معلوم، من اختلاط الأنساب، وإفساد فرش الناس، وإفساد بناتهم وزوجاتهم، وكذلك فيه من الأمراض التي يعرفها من يعرف هذا، ففيه من الفساد الخلقي والفساد الجسدي والفساد الديني الشيء العظيم، فالزنا عظيم، وأعظم الزنا أن يزني الإنسان بذات رحم له، ويليه في العظم أن يزني بزوجة جاره، كما قال هنا: (أن تزاني) وجاء بلفظة (تزاني) لأن هذا يدل على الموافقة من الجانبين، أما إذا كان من جانب واحد ويكون الجانب الآخر مرغم فيتضاعف العذاب أيضاً، والجرم أن تزاني بحليلة جارك، يعني: بزوجة جارك.

لأن الواجب في الإسلام أن يحفظ الإنسان حرمة جاره، كما جاءت الأحاديث في ذلك، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! -هكذا كررها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثاً- قالوا: من؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، فالذي لا يأمن جاره أذاه وخيانته فليس عنده إيمان.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (لم يزل جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، أي: يكون له ميراث، فهنا معنى قوله جل وعلا أنه وصاكم بترك الشرك، وبالإحسان إلى الوالدين، وكذلك الإحسان إلى الأقارب ومنهم البنين.

قال سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:١٥١].