للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية]

الشفاعة في كتاب الله جاءت مثبتة ومنفية، فالمثبتة هي: التي تكون بإذن الله جلَّ وعلا وبرضاه، كما قال جلَّ وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥] {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨].

أما المنفية فهي: ما يزعمه الكفار والمشركون من أن أصنامهم ومعبوداتهم تشفع لهم ولو لم يأذن الله جلَّ وعلا، فهذه نُفيت في كتاب الله.

إذاً: الشفاعة اثنتان: مثبتة، ومنفية، الأولى حق ثابتة، والأخرى باطلة وغير واقعة، وهي كل ما زُعم أنه يقع بغير رضاه، أما الواقعة الثابتة فهي ما تكون بعد إذن الرب جلَّ وعلا، ولمن يرضى عنه.

وأصل الشرك من قديم الزمان وحديثه هو بطلب الشفاعة، وتعلق الناس بأذيالها، حيث قاسوا رب العالمين على ما يعهدونه فيما بينهم، فإذا كان هناك رئيس أو ملك فلا يستطيع كل إنسان أن يصل إليه، ولو قدر أن يصل إليه وله طلب يطلبه منه، فقد لا يحصل له ولا يتهيأ له، بخلاف ما إذا طلب من وزيره أو قريبه المقرب عنده أن يشفع له، فإن الغالب أنه يدرك ذلك، ومن هنا اتخذت الشفاعة، وطلبوا الشافعين من الأصنام والأشجار والأموات والملائكة وغيرهم، وإن كان الإنسان غير ملتزم بأمر الله، بل تاركاً أمر الله جانباً، ومرتكباً كل ما نهى الله عنه، ومع ذلك يزعمون أنه يشفع لهم قياساً على ما يشاهدوه في الدنيا، وهذا هو سبب وقوع الخلق في الشرك كما قال الله جلَّ وعلا عن المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] يعني: يتخذون الأصنام من دون الله أنداداً ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] يعني: يشفعوا لنا، وكما قال الله جلَّ وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:٤٣] (من دون الله)، يعني: بغير إذنه وبغير رضاه، هذا معنى (من دون الله) وكل ما جاء في القرآن في ذكر الشفاعة من دون الله فالمقصود أنها تقع بلا إذنه وبلا رضاه، وهذا لا يمكن، قال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:٤٣] يعني: كيف تتخذونهم وتطلبون منهم الشفاعة وهم لا يملكون شيئاً؟! و (شيئاً) نكرة تدخل فيها الشفاعة وغيرها، فكيف يُطلب من الإنسان شيئاً لا يملكه؟! كيف يُطلب من المطلوب منه الشيء الذي لا يملكه؟! هذا ضلال -في الواقع- وخسارة، ثم قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:٤٤]، فالشفاعة التي أبطلها جلَّ وعلا هي هذه، وهي كثيرة، فهم -في الواقع- اتخذوا أصناماً على صورة الصالحين، أو على صورة الملائكة، أو على صور ما يتخيلونه من أنه مقدس ومعبود وأنه يقرب إلى الله، اتخذوا هذه فصاروا يدعونها ويتقربون بالجلوس عندها، ومسحها والطواف عليها، والتوجه إليها بالدعوة وغيرها، ويزعمون أنها ستشفع لهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فشفاعتها بأن يحصل لهم المطلوب من الغيث أو الرزق أو صحة البدن أو ذهاب المرض أو ما أشبه ذلك من مطالبهم التي يزعمون أنها تحصل لهم إذا سألوها من الميت أو ممن يكون معبوداً لهم، وكل ذلك يزعمون أنه بواسطة الشفاعة؛ لأنه مقرب عند الله، وهو يسأل ربه، وهذا السؤال هو الشفاعة، فيتوسط لهم ويسأل الله، والواقع أن هذا شرك وتنقُّص لرب العالمين جلَّ وعلا، وهو ناتج من سوء الظن بالله جلَّ وعلا؛ لأن الذي يطلب الشفاعة من دون الله إما أنه يتصور أن الله لا يسمع، وإنما سيسمع بواسطة هذا المدعو إذا دعاه وطلب منه، أو يتصور أنه لا يرحم عبده إلَّا أن يجعله ذلك الشافع عاطفاً على هذا الطالب فيرحمه، أو يتصور أنه لا يعلم حاجات الناس والخلق إلَّا أن يعلم بها مثلما يكون للملوك وغيرهم، فإنهم لا بد أن يُبلَّغوا بشئون الناس؛ لأنهم لا يعرفونها.

وكل هذه ظنون فاسدة؛ وكلها مما يدعو إلى الشرك وتنقُّص الله جلَّ وعلا.

فالمقصود أن الشفاعة على نوعين: نوع شركي، وهو الذي وقع فيه المشركون.

ونوع حق، قد أثبته الله جلَّ وعلا في كتابه، وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه سيقع.

والمؤلف ذكر الشفاعة في هذا الكتاب ليبين الحق في ذلك؛ لأن المسلم يجب أن يميز بين الحق والباطل، فيكون عنده فرقان في ذلك، فيتبع الحق خوفاً من أن يقع في شيء من الباطل فيضل.