للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًَا)

قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:٤٤]].

قبل هذه الآية قوله جلَّ وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:٤٣ - ٤٤].

قوله: (أَمِ اتَّخَذُوا) يقول المفسرون: إذا جاءت (أم) فمعناها: (بل) يعني: (بل اتخذوا من دون الله شفعاء) واتخاذهم الشفعاء أنهم يزعمون أنها تشفع لهم ولو لم يأذن الله جلَّ وعلا، ولو لم يرضَ عن المشفوع له، هكذا زعموا؛ ولهذا صار ذلك شركاً حيث إنه -على حد زعمهم- يقع شيء لا يأذن الله جلَّ وعلا به ولا يريده، ثم إن الشفاعة التي اتخذوها جعلوا الشفيع الذي زعموه بمنزلة الله جلَّ وعلا بحيث إنه يُدعى ويُسأل الشفاعة، يقال له: اشفع لنا عند الله، فالشفاعة هي الدعاء والطلب، والدعاء والطلب يجب أن يكون ممن يملك الشفاعة، وكل مَن دون الله جلَّ وعلا لا يملك شيئاً من ذلك، فالشفاعة لله جميعاً يعني: لا أحد من الخلق يملك شيئاً من الشفاعة.

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:٤٣] يعني: أنهم قد وقعوا في هذا، وهذا أمر باطل قد حرمه الله جلَّ وعلا، وجعله سبباً لمنع الشفاعة، فالمتخذون للشفاعة -في الواقع- عملوا عملاً يمنعهم من الشفاعة، وهو أنهم يطلبون الشفاعة من غير الله جلَّ وعلا، والمفروض أن الذي يُطلب منه نفع يكون مالكاً لذلك النفع أو الذي يُطلب منه دفع ضرر يكون قادراً ومستطيعاً لدفع ذلك الضرر، والله جلَّ وعلا يقول: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً} [الزمر:٤٣] و (شيئاً) هنا: نكرة، يعني: ليس بأيديهم أي نفع يملكونه ويعطونه هذا السائل، ثم زاد على ذلك وصفهم بأنهم لا يعقلون؛ لأنهم إما جماد أو أموات أو جن غائبون لا يعرفون شيئاً من ذلك أو أنهم شجر أو غير ذلك.

(ولا يعقلون) بمعنى: لا يعلمون شيئاً مما في نفوس الناس من حاجاتهم؛ لأن هذا إلى الله جلَّ وعلا، ثم بعد هذا يقول جلَّ وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:٤٤] فليس لأحد من دون الله شفاعة، وهذا يبين أن الشفاعة لا يجوز طلبها إلَّا من الله جلَّ وعلا، وهذا لا ينافي كون الحي الحاضر الذي يُرجى قبول دعوته يُطلب منه الدعاء، فإن هذا شفاعة، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفعلون ذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم، وأن يشفع لهم كما هو معروف، فهذا لا ينافي هذا؛ لأن الداعي يدعو الله، والذي يرجى قبول دعوته يسأل الشيء الذي يملكه وهو الدعاء فقط، فيسأله الدعاء والطلب من الله، ولا يسأله أن يشفع له الشفاعة التي يعتقد المشركون أنها تقع ولو لم يأذن الله، ولو لم يرضَ عن المشفوع له، وإنما يسأله الدعاء؛ لأنه يرجو أن تُستجاب دعوته، ومن هذا القبيل ما شرعه الله جلَّ وعلا للمسلمين بأن يدعوا للميت في الصلاة عليه، فإنها شفاعة يشفعون له إلى الله جلَّ وعلا ليغفر ذنبه ويتجاوز عن سيئاته وإلخ، فهذه شفاعة قد تُقبل وقد لا تُقبل، فالأمر كله لله جلَّ وعلا، وإذا طُلبت الشفاعة من الله يكون هذا من الأسباب التي يرحم الله جلَّ وعلا بها مَن سُئلت له.

إذاً: حقيقة الشفاعة أنها بيد الله جلَّ وعلا إذا شاء أن يرحم عبده جعل له سبباً من الأسباب مثل: دعوة المؤمنين له، أو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له؛ ولكن الله جلَّ وعلا أخبرنا أن الشفاعة لا تنفع إلَّا لمن رضي قوله، والرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة وضح هذا وبينه بحيث إنه لم يترك الأمر فيه التباس أو اشتباه، ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة تَعَجَّلها -يعني: دعا بها على قومه- وقد اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله كل من مات لا يشرك بالله شيئاً) فأخبر بأن شفاعته تكون لأهل التوحيد الذين لا يشركون بالله شيئاً، أما الذي يسأل الشفاعة من الميت سواءً كان نبياً أو ولياً على حد زعمه أو ملكاً من الملائكة أو شيئاً لا يعقل، فإنه -في الواقع- أشرك بالله، فصار قد جاء بسبب يمنعه من قبول الشفاعة؛ لأنه وقع في الشرك، وهذا هو الذي دلت عليه الآيات ودل عليه قوله في هذه الآية: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:٤٣ - ٤٤] فالشفاعة مُلك لله، ولا يأذن جلَّ وعلا للشافع أن يشفع إلَّا إذا شفع لمن رضي الله جلَّ وعلا عنه، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨]، {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٣] فالإذن شرط في الشفاعة، والرضا عن المشفوع له شرط آخر، ويبقى شرط ثالث وهو: أن يكون المشفوع له متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يتديَّن ولا يتعبَّد بشرع يخترعه من عنده ويبتدعه، فالشفاعة من التوحيد، وهي تدل على أن الأمر كله بيد الله جلَّ وعلا، وعلى أنه جلَّ وعلا يتفضل على من يشاء بالإذن لمن يريد أن يكرمه، فيأذن له بالشفاعة فيشفع.