للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم قتل النفس المعصومة]

قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:١٥١].

قوله: (ولا تقتلوا النفس) هذا تعميم بعد تخصيص؛ لأنه نهى عن قتل الأولاد أولاً وهو من قتل النفس، ثم جاء هنا التعميم فقال: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، فهذا يشمل حتى الكفار إذا كان لهم عهد ولم يكن هناك حرب بين المسلمين وبينهم، فلا يجوز قتلهم في أي حال من الأحوال، وقد جاء في الحديث: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً)، والحديث في صحيح مسلم، فقوله: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)، أي: هو كافر.

فكيف بالذي يقتل مسلماً؟ فقد جاء أن زوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل مؤمن، وجاء أن الله جل وعلا يقول: لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل مسلم لأكبهم في النار كلهم، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركاً، والرجل يلقى الله بدم حرام)، ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: (من قتل مسلماً فلا توبة له)؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:٩٣]، وقد أخبر الله أنه يغضب عليه ويلعنه ويعد له جهنم، ولكن الصواب الذي عليه العلماء أن القاتل إذا تاب تاب الله عليه، ويقول ابن القيم رحمه الله في هذا: إن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله جل وعلا حيث حرم القتل، فهذا إذا تاب الإنسان منه تاب الله عليه، وحق لأولياء المقتول وهذا يسقط بالقصاص أو بدفع الدية أو بالعفو، وحق للمقتول نفسه فهذا لا يسقط، ولابد من استيفائه يوم القيامة إلا إذا شاء الله؛ فإنه قد يرضي المقتول عن القاتل، ولهذا جاء أن أول ما يُقضى به بين الناس يوم القيامة الدماء، وأن المقتول يأتي يحمل رأسه وأوداجه تشخب دماً متعلقاً بقاتله يقول: يا رب! سل هذا لم قتلني؟ وفي الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار.

قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل -أي: أمره ظاهر- فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فالقتل محرم عموماً، كما قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:٣٢]، فهو أمر عظيم جداً.

وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:٣٣] استثنى التي بالحق، وجاء في الحديث الصحيح: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، و (التارك لدينه) أي: المرتد الذي يرتد ويترك الدين يقتل.

وهذا قتله بالحق، والذي يزني وقد من الله جل وعلا عليه بالزوجة الحلال، فإن حكمه الرجم بالحجارة حتى يموت، ويذوق بدنه كله الألم الذي ذاق الشهوة المحرمة، وكذلك النفس بالنفس، فإذا قتل إنسان إنساناً فإنه يقتل به، وكذلك الكفار إذا صار بينهم وبين المسلمين قتال فإن قتلهم بحق؛ فإن الله جل وعلا يقول: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:٣٦]، فحرض على قتلهم وأمر به لأنه حق.

وقوله سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:١٥١] يعني: هذه الأمور هي الوصية التي وصانا بها.

والوصية: هي التأكيد على الأمر والإلزام به والاهتمام به أكثر وصانا بهذه لعلنا نعقلها فنحفظها ونعمل بما قال لنا ربنا جل وعلا.