للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الهداية بيد الله وليس على الرسول إلا البلاغ]

قال الشارح رحمه الله: [قال ابن كثير رحمة الله عليه: يقول تعالى لرسوله: إنك يا محمد لا تهدي من أحببت، أي: ليس إليك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:٢٧٢]، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣]].

من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حريص على هداية أمته، فكان حريصاً على هداية الكفار أشد الحرص، ولهذا نهاه الله جلَّ وعلا عن المبالغة في ذلك فقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:٣] يعني: قاتل نفسك، ويقول جلَّ وعلا: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:٩ - ١٢] وقال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:١٢٧]، في آيات كثيرة نهاه عن الحزن عليهم، ونهاه عن كونه يحرص كل الحرص على ذلك؛ لأن الأمر إلى الله، وقال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران:٢٠] أي: عليك أن تبلغ وتبين، وأما الهداية فهي إلى الله؛ لأنهم عبيدُه يتصرف بهم كيف يشاء؛ ولهذا قال: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:١٢٨] وإنما عليك أن تبلغ، والأمر إلى الله جلَّ وعلا، فكُلِّف بالبلاغ ولم يُكَلَّف بهداية القلوب فإنها إلى الله جلَّ وعلا، فكان حريصاً حرصاً عاماً وخاصاً.

ومعلوم ما وقع له صلى الله عليه وسلم من عمه من الحماية، فما استطاع الكفار أن يصلوا إليه بالأذى لما كان أبو طالب حياً، فقد كان يحوطه، وكان رئيساً في قومه معظماً، وكانوا لا يجرءون على مخالفته، ولا يستطيعون أن يصلوا إليه، وقد كان يقول: لن تصلوا إلى ابننا حتى نقتل حوله مجندلين، فكان مستعداً أن يقاتل حتى يُقتل، ومع ذلك كان على دين قومه.

وهذه من حكمة الله جلَّ وعلا؛ ليبين لخلقه جلَّ وعلا أن الرسول ليس بيده شيء من هداية الناس، وإنما الهداية بيد الله جلَّ وعلا يختص بها من يشاء، وهو أعلم بمواقع فضله، وأين يضع فضله.

ومن المعلوم أن الإنسان أعطي عقلاً ونظراً وفكراً، ثم جاءته رسالة من الله، وبُين له طريق الخير وطريق الشر، فقيل له: هذا الخير فاسلكه، وهذا الشر فاجتنبه، فجُعل الأمر إليه، وهذه الدلالة بإمكان كل أحد، أما جَعْله محباً للخير ومبغضاً للشر فهذا فضل الله، وإذا تفضل به على مخلوق فيجب عليه أن يشكره، ويعرف حقه عليه، ويزداد عبادةً له جلَّ وعلا.

فعلى المسلم أن يقارن حالته مع حالة الكفار الآن، فالكافرون اليوم كثيرون جداً، الأرض مملوءة منهم، وكلهم عندهم أفكار وعندهم عقول كبيرة، يخترعون المخترعات، ويجيدون الصناعات؛ ولكن مُنعوا أفضل ما يكون، مُنعوا الإيمان بالله جلَّ وعلا، وأنت أيها المسلم قد تفضل الله جلَّ وعلا عليك بالإيمان، فهل لأنك أكثر منهم عقلاً؟! لا.

لست أكثر منهم عقلاً، وإنما هذا فضل الله يختص به من يشاء جلَّ وعلا.

فالمقصود: أن من الحكم التي تظهر للمتأمل في كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يقنع أبا طالب بدعوته ويجعله مسلماً أن الأمر كله لله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك مع الله شيئاً، وقد حرص أشد الحرص على هداية عمه فما استطاع.

وهذا مما يبين بوضوح أن العبادة يجب أن تكون لله وحده، وأنْ ليس للرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء؛ لأنه عبدٌ لله كلفه الله بإبلاغ رسالته.

وكذلك يتبين أن التعلق بالنسب والقرابة لا تُجدي شيئاً ولا تفيد شيئاً، وإنما الذي يفيد هو: تقوى الله وطاعته فقط، فهذا أبو لهب عمه أخو أبيه، ومع ذلك {سيصلى نَارَاً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:٣] فلم تنفعه القرابة ولم تجد عنه شيئاً، وإنما الصلة بين الإنسان وبين السعادة: بطاعة الله جلَّ وعلا وامتثال أمره واجتناب نهيه.

قال الشارح رحمه الله: [قلت: والمنفي هنا هداية التوفيق والقبول فإن أمر ذلك إلى الله وهو القادر عليه، وأما الهداية المذكورة في قول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢] فإنها هداية الدلالة والبيان، فهو المبين عن الله، والدال على سدينه وشرعه].