للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اشتداد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبي طالب]

قال الشارح رحمه الله: [وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل.

قال ابن فارس: مات أبو طالب وللرسول صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً.

وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام].

ولهذا كان العام الذي توفي فيه أبو طالب وخديجة يُسمى (عام الحزن)، واشتد الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كثيراً؛ لأن الكفار تمكنوا من أذيته أكثر مما كان قبل، وهذا لا ينافي ما سبق أنه كان يتحداهم بأن يصلوا إليه بشيء، فالأذى يُوجد، والأذى هو للأمور الخفيفة، بل ابن آدم قد يؤذي الله ربه، كما قال الله جلَّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب:٥٧] فالإنسان يؤذي ربه بالكلام السيئ البذيء الذي يتكلم به، والمسبة، وشتم الدين أو شتم الرسول أو نسبة ما يتعالى عنه الرب جلَّ وعلا، ويتقدس عن نسبته إليه، كأن ينسب له ولداً أو ينسب له أماً أو ينسب له أنه لا ينصر رسوله، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي تخالف مقتضى أسمائه وصفاته تعالى وتقدس؛ ولهذا جاء في الحديث القدسي الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر أقلب ليله ونهاره) (يؤذيني) فابن آدم يؤذي الله، ولكنه لا يضر الله، فالأذى غير الضرر، الضرر: لا أحد يضر الله جلَّ وعلا، كما قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئَاً} [محمد:٣٢] ولكن الأذى قد يقع من ابن آدم على ربه جلَّ وعلا، وقد لعن الله جلَّ وعلا من يؤذيه؛ لأن الأذى يخص في الشيء الذي يكون أثره خفيفاً، كما جاء عن الأصمعي أنه قال: رأيت أعرابية في الفلاة، فقلت: كيف تصبرون على الحر والبرد؟ أما يضركم الحر والبرد؟ فقالت: لا سواء؛ أما الحر فهو أذى، وإنما الذي يضر هو البرد.

فالعرب يفرقون بين هذا وهذا، ويعرفون مواقع اللغة.

فعلى هذا نقول: الأذى: للشيء الذي يخص أثرُه ووضعُه.

أما الضرر فهو: لما عظُم أثرُه وأيضاً بلغ فيمن وصل إليه.

والناس لا يصلون إلى الله في ضرر؛ ولكنهم يؤذونه كما يؤذون رسله، والأذى يحصل بالكلام، ويحصل بالفعل المخالف، ويحصل بالتكذيب، كل هذا يكون أذىً يؤذي.

فآذوه صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أكثر مما كان قبل؛ لأن عمه كان يحوطه، أوصلوا إليه الأذى أكثر، ومن أبلغ ما آذوه به أنهم كانوا يضعون -مثلاً- عليه سلى الجزور على ظهره وهو ساجد، كما فعل ذلك ابن أبي معيط، فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة، وكبار الكفار جالسون عنده، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى هذا المرائي، من يأتي بسلا جزور فلان فيضعه على ظهره؟ فذهب الشقي ابن أبي معيط، فأخذ سلا جزور ووضعها على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فصاروا يضحكون، وهو ساجد لم يتحرك من سجوده صلوات الله وسلامه عليه، حتى جاءت فاطمة وأزالته.

فهذا من الأذى البليغ.

وكذلك كونه يأتي الرجل منهم ويأخذ العظم البالي ويفته أمامه ويقول: تزعم أن الله يحيينا بعدما نموت، كيف يحيينا إذا كنا مثل هذا العظم؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: (يحييك الله، ثم يجعلك في جهنم) فهذا التكذيب وذكر الحجج التي يراد بها إبطال الحق هو من الأذى.

فهم يؤذونه، ولكن ما وصلوا إلى ضره؛ لأن الضر هو الذي يمنعه من القيام بدعوته صلوات الله وسلامه عليه، فما وصلوا إلى هذا؛ لأن الله يحميه من ذلك.

وكونهم يؤذونه يعظُم بذلك أجره عند الله وجزاؤه، فكلما حصل له من أذى يرفع درجته عند الله، ويكون أجره أعظم، ولهذا لما كان يقسم مالاً، فقال الرجل الشقي: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فلم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، وقد سمعه بعض الصحابة، وذهب إليه وقال له: إن هذا الرجل يقول كذا وكذا، عند ذلك تغير وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟! ثم بعد ذلك قال: رحم الله موسى؛ لقد أوذي أكثر مما أوذيتُ فصبر).

فالمقصود: أن الأذى يكون بالكلام وفي نسبته إلى ما يتنزه عنه، أو القيام بالباطل أمام الحق.