للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تحريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه للرافضة الذين ألهوه]

قال الشارح رحمه الله: [الغلو هو: الإفراط بالتعظيم بالقول والاعتقاد، أي: لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله، فتنزِّلوه المنزلة التي لا تنبغي إلَّا لله.

والخطاب وإن كان لأهل الكتاب فإنه عام يتناول جميع الأمة، تحذيراً لهم أن يفعلوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم فعل النصارى في عيسى، واليهود في العزير، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) ويأتي.

فكل من دعا نبياً أو ولياً من دون الله فقد اتخذه إلهاً، وضاهى النصارى في شركهم، وضاهى اليهود في تفريطهم؛ فإن النصارى غلوا في عيسى عليه السلام، واليهود عادَوه وسبوه وتنقَّصوه، فالنصارى أفرطوا، واليهود فرَّطوا، وقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:٧٥] ففي هذه الآية وأمثالها الرد على اليهود والنصارى.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم، قال: وعلي رضي الله عنه حرَّق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خُدَّت لهم عند باب كِندة، فقذفهم فيها، واتفق الصحابة على قتلهم؛ لكن ابن عباس مذهبه أن يُقتلوا بالسيف من غير تحريق، وهو قول أكثر العلماء].

باب كِندة: باب من أبواب الكوفة، وهو منسوب إلى قبيلة كِندة؛ لأن العرب لما سكنوا في هذا البلد صار لكل قبيلة حي ومكان معين يُضاف إليهم، والمسجد يُضاف إليهم، والباب الذي يُدخل منه عليهم يُضاف إليهم.

والسر في هذا هو: عبد الله بن وهب بن سبأ اليهودي الذي جاء من صنعاء في ذلك الوقت وهو على يهوديته؛ ولكنه أظهر الإسلام ليمكر بالإسلام، وذكروا أنه من الدهاة الذين يتقنون الفجور، فصار ينشر في الناس: أنه ما مات نبي إلَّا وله وصي، وصار يقول لهم: إن وصيَّه هو علي بن أبي طالب، ثم تمادى به الأمر إلى أن قال: إن علياً هو الإله، وصار يدعو الناس إلى هذا ويزينه، فاستجاب له أشباه الأنعام الذين يتبعون كل ناعق، فصاروا ينمُّون هذا في أفكارهم حتى ارتسم في أذهانهم ورسخ في قلوبهم، وقاموا وواجهوا علياً بذلك، فلما خرج من بيته ليصلي قابلوه وقالوا: أنت هو.

قال: ويلكم! ومن أنا؟! قالوا: أنت إلهنا.

قال: هذا الكفر! إن لم ترجعوا فسوف أقتلكم.

وحدد لهم ثلاثة أيام، وفي اليوم الثاني قابلوه بمثل ذلك، وفي اليوم الثالث كذلك، عند ذلك أمر بالحفَر أن تُحفر، وأمر أن يوضع فيها الحطب وتوقد ناراً، فأمسكهم وقذفهم فيها أحياءً، وكان يقول: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أجَّجت ناري ودعوت قنبراً وقنبر هو: مولىً من مواليه، يعني: دعاه ليساعده على ذلك، وهرب ابن سبأ.

وقد اتفق الصحابة في ذلك الوقت على وجوب أن يُقتلوا إن لم يتوبوا؛ لأن هذه الدعوى ما ادعاها إلَّا شُذَّاذ من الناس، فهي كفر صريح.

ولكن ما انحسم الأمر، بل ذهب هذا الخبيث وصار ينشر في الناس أفكاراً رديئة جداً تخالف الدين الإسلامي، فذهب إلى الشام فطُرد منه، ثم ذهب إلى مصر فباض وفرَّخ فيها، وصار الغوغاء الذين أتوا لمحاصرة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يقومون بدعوته وتحريضه، كما أن الذين أتوا من العراق كانوا أنصاراً له على هذا.

وقد ذكر المؤرخون أشياء واضحة في هذا الأمر؛ ولكن تترك الأمور على الظاهر الذي يظهر للناس فقط، والأشياء تتبين وتتضح.

ثم لما قتل علي رضي الله عنه صار ينشر في الناس أن علياً رضي الله عنه ما قتل ولا يمكن أن يموت، بل صعد إلى السحاب وسوف يرجع، والرعد الذي تسمعون هو صوته، في خرافات كثيرة، وصار كثير من الناس يتأثر بهذه الأفكار السيئة الرديئة.

والمقصود: أن هذا كله دعا إليه الغلو في الحب، وإلَّا كيف يصدق الإنسان عقله أن رب العالمين يحل في مخلوق يأكل ويشرب وينام ويحتاج حاجاتٍ كثيرة ويكون فقيراً ثم في النهاية يموت، ويصير تراباً؟! وقد سبق إلى هذا النصارى حيث زعموا أن عيسى بن مريم هو (ابن الله) أو (الله) تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً! والمعلوم أنهم من بني آدم ولهم عقول؛ ولكن كما قال الشاعر: يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ بل كما قال الله عز وجل: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً} [فاطر:٨] فالذي يُزَيَّن له سوء العمل يراه حسناً، فيرى القبيح حسناً، والأمورُ بيد الله، والهدايةُ بيد الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمان) فلا يستغرب الإنسان من أن فكر بني آدم يتغير ويصير أقل من أفكار الصبيان! ولا سيما والإنسان خُلق وجُبِل على العبادة، فإذا ترك الطريق المستقيم الذي جاء به الرسول فلابد أن تستهويه الشياطين وتضله، ويعبد المظاهر التي تحيط به، والتي يزينها له الشيطان، وأكثر الناس على ذلك؛ ولكن عباداتهم تختلف، والإنسان لا ينفعك عن عبادةٍ، والنفس إذا لم تُشغل بالسنة والحق شغلت صاحبها بالباطل والبدعة، ولابد.