للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضلال أهل الكلام]

أهل الكلام سلكوا هذا المسلك في جميع الصفات، وقالوا: إن العقل يدل على ذلك، ونحن نلتزم بالعقل، أما هذه الأخبار التي تأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات فهي أخبار آحاد، ولا نثبت الأمور القطعية إلا بأمور برهانية، وهي العقليات، هكذا يقولون! والواقع أن الأمر بالعكس تماماً، فالذي يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم هو البرهان، وما يقولونه هو شكوك وظنون، بعضها كاذب، وبعضها خطأ.

وإذا كان الدليل من كتاب الله، فإن ثبوت القرآن أمر مقطوع به، ولا أحد يشك فيه؛ لأنه متواتر، نقلته الأمة بعضها عن بعض من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ما انفرد به ألف أو مائة ألف أو مليون، بل الأمة كلها تنقله، فهو أمر متواتر لا يمكن أن يطعن فيه؛ وإذا كان كذلك قالوا: دلالته ظنية، يعني: كوننا نعين أن هذه الآية تدل على كذا وكذا؛ هذا أمر مظنون فيه؛ فلا نعتمد عليه، وإنما نعتمد على الأمور اليقينية البرهانية، والأمور اليقينية البرهانية زعموا أنها محاكاة الأفكار، وزبالة الأذهان، وكل ما كان الإنسان منهم أذكى صار أسرع إلى الحيرة وإلى الشكوك التي تأكل قلبه، ويصبح لا يستطيع أن ينام، لأنه ما يدري ماذا يعتقد، ويتمنى أن يكون في الاعتقاد مثل عوام المسلمين، أو مثل العجائز التي في دُورها، ويقول: يا ليتني أموت على ما تموت عليه العجائز، وهذا بسبب أنه سلك مسالك مختلفة لاختلاف العقول، يأخذ مسلكاً يرى أنه براهين وعقليات ثم يأتيه آخر ويبطلها، ثم يأتي آخر بأدلة تعارض أدلته فتصبح الأدلة عنده متعارضة؛ فيبقى حائراً لا يدري ماذا يقول، ولا يدري ماذا يعتقد!! ذكر المترجمون لأحد هؤلاء أنه توغل في هذا حتى بلغ الغاية، وكان له صديق من أهل السنة، فدخل عليه يوماً وهو في بيته مستغرق التفكير، فسلم عليه فلم يشعر به ولم يرد عليه السلام، ثم أعاد السلام مرة أخرى فلم يرد عليه، فقال في نفسه: لا بد أنه دهاه أمر، إما أنه ذهب عقله، وإما يوجد أمر ليس طبيعياً، فوقف متحيراً، ثم هم أن يرجع ما دام بهذه المثابة! عند ذلك انتبه فرفع رأسه وقال له: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك ساخراً منه!! وقال: ماذا أعتقد؟! أعتقد ما يعتقده المسلمون والحمد لله، فأطرق رأسه وجعل يبكي، وقال ولكني -والله- ما أدري ماذا أعتقد! هذا بعدما أمضى في التعلم والقراءة أكثر من سبعين سنة، ويقول وهو بهذه المثابة: ما أدري ماذا أعتقد!! لماذا؟ لأنه ترك الوحي الذي به الهداية، الله جل وعلا يقول لرسوله: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ} [سبأ:٥٠]، الرسول صلى الله عليه وسلم يهتدي بالوحي، فكيف يمكن أن يهتدي غيره بغير الوحي، هذا مستحيل لا يمكن، فالمقصود أن هذه التي يقولون عنها: عقليات، فيها إبطال العقليات، والواقع أنها ليست عقليات، بل هي شبه وأمور تدعو إلى الحيرة والشك.

والعقل في الشرع ليس مهدراً، ولكن لا يستقل بالهداية؛ ولهذا يذكر الله جل وعلا أموراً كثيرة وينبه العقول عليها كما قال جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:١٦٤] يعني: يدل العقول على أن تفكر في هذه الأمور، والعقول لا تستطيع أن تستقل بالهداية، ولو كان كما يقولون فما الداعي إلى إرسال الرسل؟ لا داعي من ذلك إذا كان الأصل هو العقل، وإذا كان ما يأتي به الرسول نرجعه إلى العقول فلماذا إرسال الرسل؟ يكفي العقل لو كان كما يقولون، ولكن هذا يدل على بطلان قولهم، فإنه لا بد من إرسال الرسل، والناس لا يهتدون إلا بالرسل الذين أرسلهم الله جل وعلا.