للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها]

قال الشارح رحمه الله: [وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه، وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها؛ متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة، وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة] الواقع أن الخلاف موجود عندهم، ولكن خلاف المتأخرين في مثل هذه المسألة ينبغي ألا يلتفت إليه؛ لأنه مخالف لنصوص الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، وهذا تمام المخالفة، وإذا خالف قول الإنسان قول الله جل وعلا أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يؤخذ به، بغض النظر عن صاحب القول؛ لأنه قد يكون مثلاً جهل هذا الشيء أو التبس عليه، وقد يكون له عذر، وقد لا يكون له عذر، ولكن الإنسان إذا علم قول الله جل وعلا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن يأخذ بقول الله وقول رسوله، ولا يلتفت إلى قول القائل مهما كانت إمامته وعلمه.

ومن المعلوم أن أئمة الهدى من الأئمة الأربعة وغيرهم من أقرانهم وأتباعهم من علماء المسلمين لا يقصدون مخالفة الله جل وعلا، ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما حصل التعلق بالقبور والتعبد عند أصحابها وقصدها إلا في الأزمنة المتأخرة، وأما ما يذكر في كتب الفقه من مجرد الكراهة فالمقصود به التحريم، فمثلاً في المدونة أو في غيرها من الكتب التي يزعمون أنها لأصحاب المذاهب من الأئمة الكبار، يذكرون أن هذا مكروه، وأن الصلاة في المقبرة مكروهة، فيأتي من بعدهم ويقول: الكراهة هل هي كراهة تنزيه أو كراهة تحريم؟ ويختلفون في هذا، وهذا يجب ألا يلتفت إليه؛ لأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم صريحة في ذلك، ولا نحتاج إلى قول فلان فيها، ولا قول فلان، الإنسان إذا استبان له قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز له أن يأخذ بقول أحد من الناس مهما كان، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول ذلك لأنه كان بجوار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قال قولاً وجب اتباعه وأخذه، والله جل وعلا يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣].

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله على هذه الآية بعدما ذكر أقوال بعض الأئمة: إن الفتنة المقصود بها هنا الشرك، فإن الإنسان إذا رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم يزيغ قلبه؛ فيكره الحق، ويؤثر الباطل على الحق؛ فيكون بذلك عابداً لهواه أو عابداً لمتبوعه، وأما العذاب الأليم فهو العذاب العاجل في الدنيا قبل الآخرة، أما الآخرة فالأمر أشد من ذلك وأعظم.

ولهذا يقول الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الحديث وصحة سنده يذهبون إلى قول سفيان.

ويقصد بسفيان سفيان الثوري رحمه الله الإمام المشهور، قال يذهبون إلى قول سفيان والله جل وعلا يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣] ثم يقول: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله يرد بعض قوله فيقع في قلبه زيغ فيهلك.

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يأمر بمتعة الحج، فقيل له: إن أبا بكر وعمر ينهيان عن المتعة، فقال: أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعترضون علي بقول أبي بكر وعمر؟ يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء.

هذا وهو قول أبي بكر وعمر فكيف بقول إنسان متأخر قد قل نصيبه من العلم؟! وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بهوى النفوس واتباع الشهوات، وإنما تعظيمه صلوات الله وسلامه عليه باتباع أمره.

وكذلك محبته صلوات الله وسلامه عليه تكون باتباع أمره وطاعته، ليس بالدعوى، ولا بالبدع وإحداث أمور يكرهها صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه كان يقول في خطبه وفي كل مناسبة: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها) دائماً يردد هذا! في صحيح مسلم أنه صلوات الله وسلامه عليه قال (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فإذا كان الأمر الذي هو عبادة يُتقرب به إلى الله لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه لا خير فيه، لا يقبل ولا يثاب عليه، وهذا في مجرد البدع، فكيف إذا كان الأمر فيه تعبد لغير الله، وفيه صرف حق الله جل وعلا لمخلوق ضعيف؟! هل من فعل هذا عرف الله؟ هل قدر الله حق قدره؟ تعالى الله وتقدس! {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح:١٣ - ١٥] ما أحقر الإنسان! ما أحقر الخلق كلهم بالنسبة لله جل وعلا! ولهذا إذا صار يوم القيامة وجمعهم جل وعلا في صعيد واحد؛ يتبين الغبن العظيم، الذي لو قدر أن إنساناً يموت بسببه لمات الخلق، ولكن لا موت، يعضون على أيديهم من الندامة، ويعودون على الذين كانوا يصرفون إليهم هذه الأمور بالبغض والكراهية، بل باللعن، ولكن إذا كانوا لم يأمروهم بهذا ولم يدعوهم إليه فهم برآء من أفعالهم، كما أخبر الله جل وعلا عن الملائكة وغيرهم من الأنبياء والصالحين عندما يقال لهم: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:٤٠] تقريراً لوقوع العذاب بهؤلاء العابدين، فيوجه السؤال أولاً إلى المعبود: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:٤٠] فيقولون: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:٤١] الجن هي التي أمرتهم، ولا يلزم أن تكون عبادة الشيطان نفسه بأن يتجسد أمامهم ويسجدون له، ولكن من يطيع أمره بالمعصية فهو عابد له.

حق الله هو أن يكون التعلق والتعبد والرجاء والخوف والإنابة والتوبة وغير ذلك كله له، ليس لأحد من الخلق فيه شيء؛ لأنه خلق عباده ليعبدوه، فيجب أن يحمى هذا الجانب كما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصانه، غير أن عدم الاهتمام بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به هو الذي يوقع في الخلل والنقص، ثم يوقع في الشرك نسأل الله العافية، وإلا فكيف يتصور الإنسان أن أناساً يتحصلون على أعلى شهادة اليوم في العلم، ثم يصبح أحدهم يقرر الشرك الذي يقع عند القبور، بل يقولون: إنه مستحب؛ لأنه توسل، أين العلم؟ وما فائدة العلم إذا كانت هذه هي النتائج؟! ثم هذا الكلام وهذه التقريرات تقدم للمطابع فتطبعها، ثم تنشر على العالم الإسلامي، وليس كل الناس في العالم الإسلامي يميز بين الحق والباطل، كثير منهم يغتر بالاسم، إذا رأى على الكتاب: الدكتور الفلاني، أو العالم الفلاني الذي من صفته كذا وكذا؛ تمسك بهذا، وصار كأنه متيقن بأن هذا حق؛ لأنه عنده كتاب، وهذا لا يكون معذوراً؛ لأن الناس كلهم يجب عليهم أن يأخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينفعهم قول الدكتور الفلاني أو العالم الفلاني، كما أخبرنا ربنا جل وعلا أنه إذا كان يوم القيامة يقول الأتباع لأتباعهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:٣٨] ما يفيد، الله جل وعلا يعذب الجميع وتقول الملائكة: قد جاءكم الرسل فلماذا ما أجبتموهم؟ هل هؤلاء رسل لكم؟ هل جاءوكم بسلطان؟ هل جاءوكم بوحي من عند ربكم؟ ليس لأحد الحجة على الله جل وعلا.

ثم إن هذا الشيء لا يجوز التفريط فيه، ويجب الاهتمام بذلك؛ لأن الأمر خطر جداً، أخطر من أن يتصوره الإنسان الذي لا يعرف الحقائق، وذلك أن الإنسان قد يكون على شيء يظن أنه حق، ثم يموت عليه وهو باطل فيهلك، فهل يمكنه أن يعود مرة أخرى ليصلح ما فسد؟ كلا، العمر واحد، فإذا لم يحسن وضعه وقصده ونيته وعبادته لربه جل وعلا في هذه الحياة فإنه إذا مات لا يفيده كونه تعلق بفلان أو فلان أو اغتر بفلان، وكل إنسان مسئول، والله جل وعلا أخبر عن الرسل أنهم يسألون: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:٦]، {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:١٠٩] الرسل يجمعون ويسألون أولاً، لماذا لم تجابوا؟ الأمر شديد جداً، الرسل ليس لهم سلطة على الخلق، الرسل جاءوا يبلغون الرسالة فقط، ولكن ليسألهم حتى يعلم الجاني خطر موقفه، وأنه يستحق أليم العذاب، وهكذا في كل مجرم، فإن الله جل وعلا أخبرنا أنه يسأل البنت المقتولة التي تدفن حية أولاً قبل الفاعل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:٨ - ٩] تسأل بأي ذنب قتلت؟ وهل تستطيع هي أن تدافع عن نفسها أو تأتي بالحجج؟ لا، فكيف بالقاتل؟ ماذا يقال فيه؟! كذلك الذين جاءتهم الرسل ما لهم حجة؛ إذ إن الرسل بينوا ووضحوا كما أمرهم الله جل وعلا، ولا نحتاج إلى بيان بعض الناس الذين فروا سواء قصدوا الفرار أو أنهم وقعوا في التكذيب الأعمى، والتعصب الشديد لفلان وفلان، فإن النفوس تحمل صاحبها على الهلاك والتعصب، حتى إنه من العجب أنه قيل لبعضهم وهو في مقام الذم لبعض أهل العلم والقدح فيهم: يا فلان! اتق الله فإننا نرجو أن الله جل وعلا يجمعك مع خصمك هذا في الجنة.

فقال: الجنة التي يكون فيها فلان لا أريدها! هذا كلام فيه شدة التعصب والبغض لبعض الأمور -وهي حق-، فيؤدي هذا إلى أن يقول مثل هذا القول، ويرى أنه على علم وحده، وهو في الواقع على جهل مركب، يعني: جاهل ويجهل أنه جاهل، وهذه مصيبة! فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم الله جل وعل