للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ قبره مسجداً

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عنها -أي: عن عائشة - قالت: (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال -وهو كذلك-: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذرهم ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) أخرجاه].

(لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم) المقصود بقوله: (نزل) يعني: نزل الموت به، والخميصة: هي الكساء الذي يلتحف به، وقد يوضع على البدن، وقد كان على وجهه، (فإذا اغتم) يعني: ضاقت نفسه لشدة الكرب الذي يكون قبل الموت، وهذا يدلنا على أنه صلوات الله وسلامه عليه كان عنده نزع شديد؛ ليتضاعف أجره صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك ما نسي أمته، وقد سبق أنه قال قبل ذلك كلاماً يحذر من اتخاذ القبور مساجد، فلما أخبرته أم سلمة عن الكنيسة التي رأتها في الحبشة وما فيها من التصاوير قال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح -أو قال: العبد الصالح- بنوا على قبره مسجداً -أي: كنيسة- وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق)، يحذر أن تقع أمته في هذا الشيء، ومعلوم أن كنائسهم بمنزلة المساجد، ولهذا جعل المؤلف هذا دليلاً على الترجمة التي ترجمها، فلا يجوز أن يتعبد لله عند القبور، وإن كانت العبادة خالصة لله، ولكن المكان ممنوع أن تقع فيه العبادة؛ خوفاً أن يكون هذا التعبد وسيلة إلى أن تصرف العبادة لغير الله.

فبينما هو كذلك، وهو في هذه الحالة إذا اغتم ألقى الخميصة عن وجهه قال هذا القول: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، ولماذا في هذه الحالة وفي هذا الوقت يقول هذا القول؟ كل من عرف الحالة، وسمع القول، عرف مقصوده صلوات الله وسلامه عليه، فهو يحذر أمته مما وقعوا فيه، وهذا من كمال تبليغه وتمام نصحه صلوات الله وسلامه عليه.

قوله: (لولا ذلك لأبرز قبره)، هذا ليس من قوله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول عائشة أو قول غيرها، (لولا ذلك لأبرز قبره) يعني: وضع في البقيع مع أصحابه، ولكن خشي أن يتخذ مسجداً، وما كانوا يخشون أنهم يعبدونه، فالصحابة لا يعبدون الرسول، ولكن يخشى أن يأتي من لا يعرف هديه وأمره فيقصد قبره للتعبد عنده، فيكون بذلك مخالفاً لما قاله صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا دليل على أنه ما ذكر لهم مكان قبره، وإنما دفنوه في بيته صلوات الله وسلامه عليه باجتهادهم، مع أنه جاء عن أبي بكر رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الأنبياء يدفنون في المكان الذي ماتوا فيه) فدفنوه في المكان الذي مات فيه صلوات الله وسلامه عليه، وهو في حجرة عائشة في بيتها؛ لأنه أول ما حصل له المرض صار كل يوم عند زوجة من زوجاته، يقسم بينهن وهو مريض، فلما شق عليه ذلك جمعهن واستأذنهن أن يكون مرضه في بيت عائشة فأذنَّ له، ولو لم يأذنَّ له ما فعل ذلك، فصار في آخر الأمر في بيت عائشة، والبيت عبارة عن غرفة واحدة فقط، كل واحدة من زوجاته التسع لها غرفة، وكان يقسم لهن إلا سودة لأنها وهبت يومها لـ عائشة؛ تلتمس رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعرف أنه يحبها، فوهبت لها يومها، فصار يمكث عند عائشة يومين، فالمقصود أن كل واحدة منهن لها غرفة واحدة، والغرفة قد لا تتسع إلا للسرير وللأغراض التي لا بد منها، كالإناء الذي يتوضأ به وما أشبه ذلك، ولهذا لم تتسع هذه الغرفة إلا للقبور الثلاثة فقط، وكل واحد صارت رجلاه عند رأس الآخر حتى تكون واسعة لهم.