للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح أثر ابن مسعود: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد)]

قال المصنف رحمه الله: [قال ابن مسعود: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:١٥١] إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:١٥٣]) الآية].

يعني: هذه الثلاث الآيات التي ذكرت من آخر سورة الأنعام، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو من أكابر الصحابة وعلمائهم، وقد أمَّره عمر رضي الله عنه على الكوفة حاكماً وقاضياً ومعلماً فيها، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة رضوان الله عليه.

وقوله: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:١٥١] إلى آخر الآيات).

يقول: كأن هذه وصية كتبها الرسول وختمها بخاتمه، فلم تخط ولم تخرج، فالمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصى بمضمون هذه الآيات؛ لأنه وصى بكتاب الله، ولم يوص الرسول صلى الله عليه وسلم وصاة إلى أحد، وإنما كان يوصي بكتاب الله كما جاء في خطبته التي خطبها في حجة الوداع التي ودع الناس فيها؛ لأنه علم قرب أجله فقال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله)، فحث على الأخذ بكتاب الله والتمسك به، هذه هي وصيته، أما الزعم بأنه وصى إلى شخص معين -لا سيما بالخلافة- فهذا كذب وافتراء على الله وعلى رسوله، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في أثناء مرضه قال: (ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده)، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: نأتي به، ومنهم قال: لا نأتي به، ثم قال: (قوموا عني)، ولو كان هذا الكتاب متعينة كتابته ما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا بينته الرواية الأخرى، فإنه قال لـ عائشة رضي الله عنها: (ادعي لي أباك وأخاك لأكتب له كتاباً) حتى لا يختلف الناس ويقول قائل: لو كان فلان لو كان فلان.

ثم قال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)، فترك الكتاب لأنه علم أن ترك الأمة بلا كتابة ولا وصية إلى أحد أنفع وأفضل، وإذا اجتهدوا ونظروا في اجتهادهم لا يخرجون عن الحق، وقد عُلم علماً يقينياً أن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ ترك الصلاة بالناس أمر أبا بكر أن يصلي بهم، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فراجعته عائشة رضي الله عنها، وقالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يستطيع أن يُسمِع الناس من البكاء، فلو أمرت عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فذهبت عائشة وقالت لـ حفصة: اذهبي وقولي له كذا وكذا، فذهبت حفصة وقالت له ذلك، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: (إنكنَّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فبقي أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس طوال مرضه صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر معلوم، ولهذا قال الصحابة: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيه لديننا فنحن نرضاه لدنيانا).

فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوص إلى أحد، وإنما وصى بكتاب الله، وقول ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه -كأنه يقول: هذه وصية كتبت ثم ختمت فلم تفتح- فليقرأ هذه الآيات) هذا في الواقع ليس خاصاً بهذه الآيات، ففي كتاب الله كثير من أمثال هذه الآيات الثلاث المحكمات.

ثم إن الشيء الذي يحتاج إلى بيان وإيضاح في كتاب الله قد وضحه الرسول صلى الله عليه وسلم وبينه، ولم يترك الناس في التباس أو اشتباه، ولهذا كان يقول لهم في آخر خطبة خطبها في الجمع الكبير يوم عرفة وكذلك يوم النحر: (إنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟)، هكذا كان يقول لهم، فصاروا يقولون: (نشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة.

فصار صلى الله عليه وسلم يرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) يعني: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي بالبلاغ.

وكثيراً ما كان إذا بلغ الشيء قال: (اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد)، يستشهد ربه؛ لأن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:٦٧]، فإذا كلف الله جل وعلا عبداً في إبلاغ الرسالة ثم توقف عنها فمعنى هذا أنه امتنع، وقد حمى الله جل وعلا رسوله من ذلك وصانه، فكان يحرص كل الحرص على التبليغ.

ولهذا يقول العلماء على هذه الآية: كل ما لم يقله الرسول ويأمر به ويفعله فهو باطل بدليل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:٦٧]؛ لأنه لو كان مما أنُزل إليه لبلغه، فإذا لم يبلغه فهو باطل مردود على صاحبه.

والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين ولم يترك شيئاً، حتى إنه لما نزل عليه صلوات الله وسلامه عليه قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤] كأنه خشي أن يكون قصر، فبادر مسرعاً إلى أقرب جبل قريب منه وهو جبل الصفا فصعد عليه وجعل يرفع صوته ويهتف: (وا صباحاه!)، وكانت هذه عادة العرب إذا رأى أحدهم عدواً قريباً ولا يمكنه أن يخبر قومه يصيح ويقول: (وا صباحاه) يعني: صبحكم العدو فصاروا يهرعون إليه من كل جانب، والذي لم يستطع أن يأتي إليه أرسل من يأتيه بالخبر؛ لأن هذا أمر مهم جداً، فلما اجتمعوا عنده قال: (يا معشر قريش! أرأيتم لو أخبرتكم أن خلف هذا الجبل جيشاً يريد أن يغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً.

فقال: أنقذوا أنفسكم من النار، فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فجعل يعم ويخص، حتى قال صلوات الله وسلامه عليه: (يا فاطمة بنت محمد! أنقذني نفسك من النار، لا أغني عنك من الله شيئاً)، فلم يترك شيئاً إلا وبينه للأمة، ولم يترك مجالاً يقوله ويبلغه إلا قام به في تبليغ شرع الله جل وعلا.

ولهذا صار كثير من الكفرة والفجرة يرمونه بالجنون، ويقولون: إنه مجنون من أجل هذا.

فالمقصود: أنه ليس للإنسان عذر بعد بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما عليه أن يهتم بأمر دينه، أن يعيره شيئاً من الاهتمام، ولا يجوز أن تكون دنياه أكثر اهتماماً عنده من أمر دينه؛ فإنه إذا كان كذلك يوشك أن يهلك.