للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[محبة الله لعباده فضل منه على عباده]

محبة الرب جل وعلا لعبده شيء لا نعقل كيفيته، ولكن نعرف أنها على خلاف ما للمخلوق؛ لأن الله جل وعلا هو الغني بذاته عن كل ما سواه، ولا يحتاج لأحد من الخلق، وكل الخلق لو كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما ضر ذلك الله جل وعلا، ولا نقص من ملكه شيء، ولو كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، فهو جل وعلا الكامل بذاته وصفاته، المستغني بذلك عن كل ما سواه، فإذا حب عبده فليس حبه لأجل الحاجة تعالى وتقدس، بخلاف العبد، فإن عبادته لربه ضرورية لا يستغني عنها أبداً، وإن انفك عنها فإن ذلك علامة على عذابه وشقائه الأبدي الذي لا يفارقه أبداً.

فاتخاذ الرب جل وعلا عبديه ورسوليه إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم خليلين هذا إكرام لهما، وإعلاء لشأنهما، وليس لأن الله جل وعلا بحاجة إليهما، بل هو الغني بذاته عن كل ما سواه، فهو مجرد كرم وجود، وفضل تفضل به عليهما.

وكذلك محبته لعباده المؤمنين، ومحبته للتائبين، ومحبته للمجاهدين في سبيله، ومحبته للمتطهرين، ومحبته للصادقين والصابرين، كل ذلك مجرد كرم وفضل وجود وإحسان، وإلا فهو جل وعلا لا تزيده طاعة الطائعين.

وكثرتهم شيئاً، ولا تنقصه معصية العاصيين وكثرتهم شيئاً، كما في الحديث القدسي حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم وفيه أنه جل وعلا يقول: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرماً بينكم؛ فلا تظالموا -إلى أن قال: - ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانو على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منكم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) في آن واحد! في مقام واحد! لو أعطاهم كلهم، من أولهم إلى آخرهم، إنسهم وجنهم، حسب طلباتهم وما تنتهي إليه أمنياتهم، ما نقص ذلك مما عنده شيء تعالى وتقدس.

والمقصود أن هذه الخلة التي اتخذها الله ليست إلا لإبراهيم ومحمد فقط صلوات الله وسلامه عليهما، فلم يتخذ من الناس خليلاً غيرهما.

وليس معنى ذلك أن خلة الله على وفق ما يتصوره الإنسان مما يجده من نفسه، أو يعلمه من غيره من الخلق، فصفات الله لا تشبه صفات الخلق، كما أنه جل وعلا لا يشبه خلقه، بل يجب أن يعلم أن الله غني كريم جواد، وأنه ليس بحاجة لأحد، فهو غني عن خلقه، وكونه اتخذهما خليلين هو مجرد إكرام لهما، وإحسان إليهما، وكذلك كونه يحب العبد التائب، ليس ذلك لأنه يحتاج إلى توبته، وإنما هو مجرد فضل وجود، مع أنه جل وعلا شديد العقاب، ولهذا يقول جل وعلا لرسوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:٤٩ - ٥٠]، فليس هناك أحد أشد عذاباً من الله، فإذا عذب عبده فلا يبالي به، فقد يرميه في جهنم ولا يبالي، ولهذا كان أحد السلف يكثر من الاجتهاد في العبادة ويبكي، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف أن يرميني في جهنم ولا يبالي.

فالرب جل وعلا غني عن جميع الخلق، فإذا أحب التائب فلكرمه وجوده، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لفرح الله عند توبة عبده -وهذا لا يستطيع أهل البدع سماعه فضلاً عن أن يقولوا به؛ لأنهم يحسبون أن هذا تشبيه؛ فهم لم يعرفوا من صفات الله جل وعلا إلا ما عرفوا من أنفسهم، حيث شبهوا أولاً، فكان التشبيه مستقراً في نفوسهم، ثم حملهم هذا التشبيه على نفي صفات الله جل وعلا- فقال صلوات الله وسلامه عليه: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده التائب، من أحدكم يضل راحلته في الأرض المهلكة، عليها متاعه فيطلبها فلا يجدها، فييأس من وجودها، فيأوي إلى شجرة ويجلس تحت ظلها ينتظر الموت قد أيس من الحياة، فيضع رأسه لانتظار الموت، فبينما هو كذلك إذ راحلته واقفة على رأسه، فيأخذ بخطامها ويقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) (الله أشد فرحاً لتوبة عبده التائب من هذا)، هل لأنه يحتاج إلى طاعة العبد أو إلى توبته؟! كلا؛ ولكن لكرمه وجوده، ولهذا لا يدخل أحداً النار إلا إذا أعذر منه، فهو يدعو خلقه -بفضله وجوده وإكرامه- ولكنهم يأبون، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى -فهناك من يدعى إلى الجنة، ويقال له: تعال ادخل الجنة، ويقول لا! لا أريدها! - قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).

وكثير من الخلق يستبعد يوم القيامة؛ لأنهم لم يشاهدوا ما أخبرهم الله جل وعلا به، بل كثير منهم لا يؤمن بالله؛ لأنه لا يؤمن إلا بالمحسوسات المشاهدات، وقد وجد نفسه بين أمور اعتيادية، ليل يأتي ونهار يعقبه، وهو يأكل ويشرب إلخ، فتصور أن هذه الأمور تتوقف عند هذا الحد، وأنه ليس بعد ذلك شيء.