للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نهى النبي عن اتخاذ القبور مساجد]

الأمر الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اهتم اهتماماً بالغاً في تصفية الدين، وتخليصه من شوائب الشرك، والتعلقات بغير الله، فنهى أن تتخذ المساجد على القبور.

الأمر الثاني: أن اتخاذ المساجد على القبور من دواعي الشرك ووسائله، وأن فاعله عاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى اتخاذ القبور مساجد أن تبنى عليها المساجد وتشيد وفقط، وإنما كل ما صلى فيه الإنسان سمي مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيّ رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) فالأرض كلها مسجد، والمسجد اسم لما يسجد فيه، ولهذا كل أماكن الصلاة التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سميت مساجد، وقد كان عبد الله بن عمر يتتبعها ويصلي فيها، ومن فعل ابن عمر هذا عرفت الأماكن التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يوافقه على هذا أحد من الصحابة بل خالفوه، وممن خالفه أبوه، بل كلهم، ولا يعلم في الصحابة أحد سلك هذا المسلك إلا عبد الله بن عمر مع أنه ليس قصده ما يقصده الذين يتعلقون بالبقع والأماكن للتبرك فيها، ليس هذا مقصده، إنما مقصده التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان يفعل الأفعال التي يفعلها، حتى إنه لما انصرف من عرفات، ووصل إلى الشجرة التي بال عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل فبال في ذلك المكان، وتوضأ وصب فضل وضوئه في قلب الشجرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ومثل هذا ليس تعبداً، ولكن مبالغة من عبد الله بن عمر في التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما الذين يعتنون بالآثار؛ لأجل البركة؛ ولأجل التعلق بها، فإنهم لا يفعلون ما يفعله عبد الله بن عمر بل إن قلوبهم متعلقة بغير الله، متعلقة بهذه البقع وهذه الأماكن، ويطلبون منها البركة والخير، والبركة والخير لن يكونا إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون إلا بطاعته وعبادة الله وحده، وأن يكون الدين كله لله، ليس فيه شيء لغيره جل وعلا.

الأمر الثالث: أن اتخاذ المساجد على القبور ملعون فاعله، واللعن: هو الطرد عن الرحمة ومظانها، فمن لعنه الله ورسوله فهو المبعد عن كل خير، والرسول صلى الله عليه وسلم يلعن من يستحق اللعنة، وإذا لعن شيئاً فأقل ما يقال: إن هذا يدل على أن هذا من كبائر الذنوب.

الأمر الرابع: أن ما فعلته اليهود والنصارى وذموا عليه -وجاء ذكر ذلك في كتاب الله وسنة رسوله- فإن ذلك من باب التحذير أن نقع فيما وقعوا فيه، وأن القصص التي قصت علينا في القرآن من قصص الأنبياء وغيرهم أننا معنيون، وأن الذي وقع لهم من العذاب -إذا فعلنا فعلهم- سيقع لنا، فهذا هو المقصود بذكر حال من كان قبلنا، وأما ما ذكره الخطابي رحمه الله، أن هذا يقع منهم على وجهين: أحدهما: أنهم يسجدون لقبور أنبيائهم، ويكون هذا هو الشرك الجلي.

والثاني: أنهم يتخذونها معابد، وأن هذا هو الشرك الخفي، فليس هذا هو المقصود في الحديث، والمقصود أهم من هذا وأعم، وهو النهي عن أن يكون عندها تعبد مطلقاً، لا بسجود ولا بجعلها أماكن عبادة، فلا يفعل عندها ما يفعل عند المساجد من ذكر الله وتلاوة القرآن، والصلاة، وإظهارالشعائر الدينية، والتعبد لله عامة، هذا هو المقصود، وأن من فعل شيئاً من ذلك فقد حاد الله ورسوله، وصار مخالفاً مخالفة صريحة، ولا يجوز أن نقصره على السجود أو الركوع، بل هو عام مطلق.

[قوله: (فقد نهى عنه في آخر حياته) أي: كما في حديث جندب، وهذا من كلام شيخ الإسلام وكذا ما بعده.

قوله: (ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعله) كما في حديث عائشة.

قلت: فكيف يسوغ بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ويبنى عليها، ويصلى عندها وإليها؟! هذا أعظم مشاقة ومحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم لو كانوا يعقلون.

قوله: (الصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد) أي: من اتخاذها مساجد ملعون فاعله، وهذا يقتضي تحريم الصلاة عند القبور وإليها.