للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أهل السنن].

وجه الاستشهاد من الأثر السابق الذي أورده المؤلف: هو أن الغلو في القبور الزيارة التي يكون فيها الاستنجاد بالميت أو طلب النفع منه؛ تجعل القبر وثناً يعبد، ويكون الإنسان واقعاً في الشرك، وفي هذا تحذير الإنسان أن يغلو في القبور غلواً يتجاوز المشروع، وإنما يجب عليه أن يتقيد بالسنة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تكون الزيارة لأجل الاتعاظ والاعتبار، ولأجل الاستغفار للميت فقط، ولا يتخذ ذلك عيداً يتردد ويتكرر في اليوم عدة مرات، وإنما يكون في وقت دون وقت، كما هو معروف عن السلف.

ولهذا لا يقتصر هذا الحكم على قبور المسلمين، بل يجوز أن تزار قبور الكفار، ولكن يجب أن تكون زيارة قبور الكفار للاتعاظ فقط، وليس للاستغفار ولا للدعاء لهم، وإنما يكون للموعظة؛ لأن العلة موجودة وهي الاتعاظ، سواء كان المقبور مسلماً أو غير مسلم، ولكن إذا كان مسلماً يضاف إلى ذلك أنه يستغفر له ويدعو له؛ لأن المسلم أخو المسلم، وينبغي بل يجب عليه أن يود له ما يود لنفسه، وإذا كان في كرب وفي شدة وقد ارتهن بعمله وختم على صحائفه ولم تزدد له حسنة ولم تنقص من سيئاته سيئة؛ فهو في أمس الحاجة إلى من يأتي من إخوته ويستغفر له ويدعو له، لعل حسنة تضاف إليه، أو سيئة تمحى عنه، وهذا من أعظم الإحسان، فيكون هذا شبيهاً بالصلاة على الميت؛ لأن الصلاة هذا مقصودها؛ لأنه انتهى عمله، وطويت صحائفه، فصلاه المسلمين عليه زيادة في صحيفته، ويطلبوا من ربهم جل وعلا أن يحط من سيئاته؛ ولهذا جاء دعاء الجنازة مشتملاً على هذه المعاني، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صليتم على الجنازة فأخلصوا له الدعاء) قوله: (أخلصوا له الدعاء) معناه: اجعلوا دعاءكم له، لا تجعلوه لأنفسكم ولغيركم، أخلصوا له الدعاء ولكن جاء في تعليمه صلى الله عليه وسلم أن دعاء الجنازة كما سيأتي يكون على قسمين: قسم يكون دعاء عاماً، ثم بعد ذلك يكون دعاء خاصاً، أول ما تبدأ تقول: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وحاضرنا وغائبنا) وهذا يكون للمسلمين عموماً، ثم بعد ذلك يدعو للميت نفسه بقوله: (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) إلى آخر الدعاء، والمقصود أن هذا إحسان إليه وهو بحاجة إلى ذلك.

وزيارة القبور مثل هذا، يعني: يزوره ليدعو له بعدما يتعظ هو بنفسه، أما إذا تعدت هذين المعنيين فهي بدعة، ولا ينتفع بها الإنسان، لا الميت ولا الحي، بل الحي يتضرر، أما الميت ما يضره ذلك؛ لأن هذا فعل الحي.

قال الشارح: [قلت: وفي الباب حديث أبي هريرة وحديث حسان بن ثابت.

فأما حديث أبي هريرة فرواه أحمد والترمذي وصححه، وحديث حسان أخرجه ابن ماجة من رواية عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور).

وحديث ابن عباس هذا في إسناده أبو صالح مولى أم هانئ وقد ضعفه بعضهم ووثقه بعضهم.

قال علي بن المديني عن يحيى القطان: لم أر أحداً من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هاني، وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئاً، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان، قال ابن معين: ليس به بأس، ولهذا أخرجه ابن السكن في صحيحه، انتهى من الذهب الإبريز عن الحافظ المزي].

إذا كان الحديث في سنده من تكلم فيه، ولم يرضه بعض الحفاظ، وبعضهم سكت عنه، ثم جاء الحديث بسند آخر من طريق آخر فهذا الذي يقول الترمذي عنه: إنه حسن، وهذا الحديث جاء من عدة طرق ليس من طريق واحد، بل كثرت الطرق وتعددت، ومع ذلك اختلف الصحابي، فدل هذا على أنه من أقوى ما يقال عنه: إنه من قبيل الحسن، فالحكم عليه بأنه ضعيف غير صحيح؛ لأنه تعددت طرقه، واختلاف الرواة فيه يدل على أن له أصلاً، وأنه ليس غلطاً، وليس وهماً من الراوي، فهذا أقوى مما وسمه الترمذي رحمه الله؛ لأنه إذا قال: هذا الحديث حسن فمقصوده إذا تعددت طرقه، وإن كانت طرقه ضعيفة، بل بسبب التعدد وكونه جاء من أكثر من طريق يحكم عليه بأنه حسن.