للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منع شد الرحال إلى القبور والمشاهد]

قال الشارح رحمه الله: [وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وتنازعوا: هل يستقبله عند السلام عليه أم لا؟ وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم وإلى غيره من القبور والمشاهد؛ لأن ذلك من اتخاذها عيداً، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، وهذه هي المسألة التي أفتى بها شيخ الإسلام رحمه الله، أعني: من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ونقل فيها اختلاف العلماء فمن مبيح لذلك كـ الغزالي وأبي محمد المقدسي، ومن مانع لذلك كـ ابن بطة وابن عقيل وأبي محمد الجويني والقاضي عياض، وهو قول الجمهور نص عليه مالك، ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب].

عطف المشاهد على القبور ليس معنى ذلك أن هذه مغايرة، هذا من عطف الخاص على العام، ذلك أن المشاهد تكون خاصة لبعض من يعظموا القبور التي يبنى عليها القباب والأبنية التي تدل على التعظيم، سميت مشاهد؛ لأنها تشاهد من بعد، ومن شاهدها عرف أنها على قبر معظم، وهذه من أعظم البدع التي حدثت في الإسلام، وأول من فعل ذلك بنو عبيد القداح الرافضة الذين ملكوا مصر والمغرب، وزعموا أنهم من أبناء فاطمة، وهذا كذب كما بينه العلماء، فليس لهم نسب يتصل بـ فاطمة وإنما هم ملاحدة، يقول ابن الجوزي والباقلاني والغزالي: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض.

فهم أول من فعل هذه الفعلة الخبيثة التي صدت كثيراً من الناس عن التوحيد، وأدخلتهم في الشرك، فهذه هي المشاهد، ثم وجد من الناس من يعظمها تعظيماً مبالغاً فيه، وكتبوا كتباً سموها حج المشاهد، وبعضهم فضل قصدها والذهاب إليها على قصد بيت الله الحرام! وهذه محادة ظاهرة لله جل وعلا ولرسوله.

وقد استفتي بعض العلماء فيمن يقصدها أو يحمل من يقصدها، فقال في

الجواب

قصدها لأداء شيء من العبادة ردة عن الإسلام، أما حمل من يقصدها فهو من أعظم الكبائر، ويخشى على من فعل ذلك أن يكون مرتداً، هكذا أجاب عبد اللطيف بن حسن بن عبد الرحمن رحمه الله.

والمقصود أن عطف المشاهد على القبور من عطف الخاص على العام.

قال الشارح رحمه الله: [نص عليه مالك، ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب لما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد، فإما أن يكون نهياً وإما أن يكون نفياً، وجاء في رواية بصيغة النهي، فتعين أن يكون للنهي؛ ولهذا فهم منه الصحابة رضي الله عنهم المنع، كما في الموطأ والمسند والسنن عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لـ أبي هريرة وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)].

الطور هو الجبل الذي ذكر الله جل وعلا أنه كلم موسى عنده، وذكر في القرآن أنه من الأماكن المباركة، فلا يشرع قصده تبركاً لهذا الحديث، وإنما المشروع قصده بإعمال المطي -يعني: بالسفر إليه بأي وسيلة كانت سواء كانت بالسيارات أو الأقدام أو غيرها- المساجد الثلاثة فقط لأجل أداء العبادة فيها، ليس لأجل زيارة قبور أو غيرها.

أما قصد المسجد الحرام فهذا فريضة على كل مسلم مستطيع، لا بد منه، إذا كان مستطيعاً؛ لأن الله افترض ذلك، وأما قصد المسجدين الآخرين مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى لأداء العبادة فيها فهو سنة؛ لأن العبادة تضاعف فيها، فقط لأجل ذلك، أما أن يكون مقصوداً لأجل الحضور عند القبور سواء كانت قبور الأنبياء كقبر إبراهيم الخليل أو قبر رسولنا صلى الله عليه وسلم فهذا من البدع، وهذا أيضاً يكون مخالفاً لنص الحديث، وليس معنى ذلك أن هذا ممنوع في كل سفر يقصد لأمور الدنيا، فإن أمور الدنيا لا تدخل في هذا، التجارة والسياحة والفرجة والعلاج وغير ذلك هذه ليست عبادة، وإنما المقصود الذي يسافر إليه تعبداً، فلا يجوز إلا لهذه المساجد الثلاثة.

قال الشارح رحمه الله: [وروى الإمام أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال: أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور ولا تأته، فـ ابن عمر وبصرة بن أبي بصرة جعلا الطور مما نهي عن شد الرحال إليه؛ لأن اللفظ الذي ذكراه في النهي عن شدها إلى غير الثلاثة مما يقصد به القربة، فعلم أن المستثنى منه عام في المساجد وغيرها، وأن النهي ليس خاصاً بالمساجد؛ ولهذا نهيا عن شدها إلى الطور مستدلين بهذا الحديث، والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة، فإن الله سماه الوادي المقدس والبقعة المباركة، وكلم كليمه موسى عليه السلام هناك، وهذا هو الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، ومن أراد بسط القول في ذلك والجواب عما يعارضه فعليه بما كتبه شيخ الإسلام مجيباً لـ ابن الأخنائي فيما اعترض به على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وأخذ به العلماء، وقياس الأولى؛ لأن المفسدة في ذلك ظاهرة].

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن شد الرحال إلى القبور فأفتى بالمنع، وقال: ما أعلم أحداً من العلماء أجاز ذلك واستدل بالحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وأدخل في ذلك قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقام ابن الأخنائي فرد عليه، وقال: إن شد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال، واستدل بأحاديث موضوعة، وأوضاع وجد الناس عليها، فحاول أن يخطئ شيخ الإسلام في ذلك، فرد عليه شيخ الإسلام بكتاب مطبوع الآن، ومتداول بين طلبة العلم، فيه البسط لهذه المسألة، وذكر كلام العلماء والأحاديث التي تبين أن قول هذا الرجل قول مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف، وأنه قول باطل، فصار في هذا خير كثير لطلبة العلم وللمسلمين، وطبع الكتاب باسم: الرد على الأخنائي، وسماه بعضهم (الجواب الباهر فيمن جوز زيارة المقابر) أما شيخ الإسلام ابن تيمية ما كان يسمي كتبه، وإنما يسميها أصحابه والذين ينسخونها، وأحياناً يسمي وهذا نادر، وكل كتاب كتبه هو جواب سؤال، وليس له كتاب كتبه استقلالاً، جميع كتبه التي انتشرت على كثرتها وعلى كبر بعضها كلها أجوبة أسئلة، وكان مجاهداً في سبيل الله، دائماً يجيب السائلين، ويفتي المستفتين، ويبحث عن مشاكل المسلمين.

قال الشارح رحمه الله: [وأما النهي عن زيارة غير المساجد الثلاثة فغاية ما فيها: أنها لا مصلحة في ذلك توجب شد الرحال، ولا مزية تدعو إليه، وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب (الصارم المنكي في رده على السبكي)] وهذا ابن السبكي أيضاً بجانب ابن الأخنائي قام يرد على شيخ الإسلام، فلفق أحاديث موضوعة وأشياء واهية لا قيمة لها، وزعم أن هذا مشروع، فرد عليه تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ابن عبد الهادي في كتاب سماه (الصارم المنكي في الرد على ابن السبكي)، وابن السبكي سمى كتابه: شفاء السقام في زيارة خير الأنام، وجعله رداً على شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم هذه المسألة توارثها من بعدهم إلى اليوم، كثير من الناس يرثون هذه المسألة بعضهم عن بعض، فأولهم هؤلاء، فجاء بعدهم من نمى هذه الأمور، وصار يكتب فيها إلى اليوم، ولهؤلاء القوم وارث، وكل تعلقهم إما أحاديث مكذوبة، أو أحاديث واهية، أو حكايات منامات، وأمور من هذا القبيل، أو أن فلاناً قال كذا، وفلاناً قال كذا، هذا كل ما تعلقوا به، وليس لهم حديث صحيح أو آية تدل على ذلك، إلا أن يحرفوه عن المقصود لأجل أن يوافق الهوى، وأهل البدع كلهم يسلكون هذا المسلك.