للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حياة البرزخ غير الحياة في الدنيا]

[المسألة التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض عليه أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه].

هذا أخذه من حديث: (إنه بلغه السلام)، وهذا يدل على أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم ما يجري حتى يبلغ إياه، يبلغ من الملائكة أو من ربه جل وعلا، كما أنه يدل على أنه حي في قبره، وهذا ليس خاصاً به صلوات الله وسلامه عليه، ولكن حياته صلوات الله وسلامه عليه أكمل من حياة غيره، وحياة الأنبياء في قبورهم أكمل من حياة الآخرين من الناس، ولكنها حياة لا نعرف حقيقتها، حياة برزخية مخالفة للحياة الدنيا، وعقيدة أهل السنة أن الروح لا تموت، فهي حية، والإنسان إذا وضع في قبره يحيا، وقد جاء ذلك صريحاً في الحديث الذي في البخاري: (إذا وضع الميت في قبره أتاه ملكان، وأعيدت الروح إليه، فيجلسانه ويسألانه) وهو يخاطبهما، وهذا علمه عند الله جل وعلا، ومعلوم أن الإنسان يوضع في قبره ويبقى على الحالة التي هو عليها، فأمور البرزخ على خلاف ما نعهده نحن، يعني: يجوز إجلاسه وتكليمه وهو على وضعه الذي وضع عليه، وليس كما يقول الزنادقة المنكرين: نحن نضع الزئبق في عين الميت أو على رأسه ثم نأتي بعد وقت ونراه ما تغير من موضعه، فلا توجد حياة ولا حركة ولا سؤال، فهؤلاء لا يؤمنون إلا بالمحسوسات، ولكن هذا من أمور الغيب التي أمرنا بالإيمان بها ولا نعرف حقيقتها، وقد جاء في حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يريكم عذاب القبر)، ولكن لو أرينا عذاب القبر ما استطعنا أن نقرب القبور، ولا استطعنا أن ندفن الموتى للهول العظيم، وقد يظهر الله جل وعلا شيئاً من هذا آية وموعظة لبعض الناس، وهذا كثير جداً، وقد شاهد الناس أشياء عجيبة، وليس الأمر مبني على هذه المشاهدات، ولكن مبني على النصوص التي جاءت في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بأنها حق ولو لم نشاهد شيئاً، فإذا جاءت المشاهدات والحكايات التي تحدث لبعض الناس يكون ذلك مؤيداً فقط، وأدلة على أدلة، وقد ألف الحافظ ابن رجب رحمه الله كتاباً في هذه المسائل سماه: أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور، وكذلك كثير من العلماء ألفوا كتباً كثيرة، وذكروا فيها أشياء كثيرة من هذه الأمور.

والمقصود: أن الحياة البرزخية حياة حقيقية، ولكنها مخالفة للحياة التي نعرفها من حياتنا هذه، وهي من أمور الآخرة، فالقبر أول منازل الآخرة.

والقبر إما أن يكون روضة على صاحبه فيه من الحبور والسرور الشيء الذي يتنعم به، أو يكون حفرة من النار تلتهب على صاحبه، وبين هذين الشيئين أمور كثيرة على حسب حالة الإنسان ووضعه وذنبه، فقد يعذب عذاباً مؤقتاً ثم يزول، قد يبقى سنة، قد يبقى سنتين، قد يبقى عشر سنوات، قد يبقى مائة سنة، أو أكثر من ذلك وهو معذب، ثم ينقطع عذابه على قدر ذنبه، وقد يبقى عذابه إلى البعث، ثم يتصل عذابه بالوقوف بالموقف، والموقف ليس سهلاً، جاء أنه مقدار خمسين ألف سنة، وفي بعضها أنه ألف سنة، وفي بعضها أنه أربعون ألف سنة، وعلى كل حال هو وقوف طويل، وقد سماه الله جل وعلا {يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:٢٧]، وقد سماه يوماً عسيراً، وسماه عبوساً قمطريراً، فشره مستطير، وخوفنا منه كثيراً جل وعلا، وقد يتصل العذاب بعد ذلك ويكون في النار، وهي أشد العذاب نسأل الله العافية! جاء في بعض الأحاديث أن الناس يشتد كربهم، فيسألون الفصل بينهم والقضاء بينهم ولو إلى النار؛ من شدة الوقوف، ويتصورون أن إلقاءهم في النار أسهل مما هم فيه، وليس كذلك، فأمور الآخرة كل شيء يأتي يكون أشد من الذي قبله، فالأمر ليس سهلاً، هذا الإنسان خلق لأمور هائلة جداً، ومع ذلك يلهو ويسهو ويلعب، وقد يعصي عن عمد؛ لأن الإنسان أمره عجيب جداً، هو جبار متكبر، وهو ضعيف أدنى شيء يعثره، فهو من أضعف خلق الله، الذرة تؤذيه، لو دخلت في أذنه أو في عينه آذته، وهو كذلك ظلوم، جهول، ومعاند، ولكنه سهل جداً بيد الله، والله جل وعلا يحلم على عباده ولا يعاجلهم بالعذاب؛ لأن مصيرهم إليه، وسوف يأتونه فراداً، كل واحد يأتيه كيوم ولدته أمه، عريان بلا ثوب، ولا نعل، ولا طعام، ولا ظل، ولا شافع، ولا نافع، ما يملكون شيئاً، وهذا ليس بعيداً، الله جل وعلا أخبر أنه قريب، بل أخبر أن قيام الساعة كلمح البصر، ليس الأمر بعيداً، فلا يجوز للإنسان أن يهمل هذا الأمر، يجب أن يعد ويستعد ويعمر بيته الذي يبقى فيه طويلاً أكثر من بقائه في عمارته التي يزوقها ويحسنها ويجلب إليها كل وسيلة مريحة، فيبقى فيها قليلاً، ثم يخرج منها بالقوة، لا يخرج هو، بل يُخرَج.

زار أحد السلف أبا ذر فما رأى في بيته شيئاً! لا إناء، لا فراش، لا سرير، قال: أين أثاثكم؟ فقال: لنا بيت نرسل إليه، بيت آخر نعمره، قال: ولكن لا بد لكم من شيء، قال: وهل أنتم سترتحلون؟ قال: لا، لا نرتحل ولكن نُرحل بالقوة، نزعج ونطرد طرداً من هذا، فنحن نعمر البيت الذي أمامنا وسنبقى فيه طويلاً، هذا هو الذي ينبغي أن يعمره الإنسان، وليس معنى ذلك أن الإنسان يعطل أمور دنياه نهائياً، لا، ما يعطلها، ولكن عليه أن يتقي الله، لا يفعل المحرمات، ولا يأكل المحرم، ويتقوى بالحلال على بقائه في هذه الدنيا، ويعرف أنه سيذهب إلى الله جل وعلا ليحاسبه، ثم إذا أدخل قبره ليس معناه أنه يكون نسياً منسياً، كلا، إما أن ينعم أو يعذب، فليستعد لهذا الأمر.