للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من أدب الخلاف]

ينبغي للإنسان أن يفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، أما أن يقصد بخلافه أن يظهر على الناس، وأن يشار إليه، وأن يقال: فلان عالم أو فلان مجادل أو أنه يستطيع أن يغلب فلاناً ويرد على فلان فلا، فهذه الحالة السيئة تدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من طلب العلم ليماري به السفهاء، ويجاري به العلماء فله النار) نسأل الله العافية.

فينبغي أن يكون القصد من الخلاف الإظهار للحق، ولا يجوز أن يكون مثاراً للبغضاء والتفرق، بل يجب على الإنسان إذا أرشد ونبه على معنى من معاني النصوص أن يشكر من نبهه وأرشده على هذا، وأن يكون هذا داعياً للتقارب والصلة والمحبة، ولا يكون داعياً للتنافر، ومن الأسف أن بعض طلبة العلم إذا نبه على شيء وقيل له: إن معنى هذا كذا وكذا، أو أنك في قولك كذا وعمل كذا قد أخطأت معنى النص، أو أخطأت كذا وكذا؛ أصبحت المسألة عداوة، وأصبح يعاديك ويبغضك؛ لأنك نبهته! فهو يريد أن يكون أعلم منك وفوقك، وكأنه يتصور في نفسه أنه هو الكامل، وليس هذا خلق طلبة العلم، هذا مسلك الجهلة الظلمة الذين يريدون العلو في الأرض.

والمقصود أن دواعي الخلاف ليست هي نصوص الكتاب والسنة، بل نصوص الكتاب والسنة تدعو إلى الاتفاق، وإلى التواد والتراحم (والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، أما إذا لم يسلم المسلمون من لسانه أو من يده فإسلامه غير مستقيم، ومستقل من ذلك ومستكثر.

وأما كون الإنسان يريد بيان الحق وإيصاله إلى الناس، فبيان الحق له أسلوب وله طريق قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبينه الله جل وعلا في كتابه، ومعلوم أنك إذا أردت دعوة إنسان وأتيته بالعنف والازدراء والسخرية وما أشبه ذلك فإنه يزداد بعداً منك، ونفوراً عن قولك، ويحاول أن يرد كلامك عليك، فيجب أن يكون هدف الإنسان من كلامه شيئين: أحدهما: أداء الحق الواجب عليه، فإن الله جل وعلا أخذ على العلماء أن يبينوا لمن لا يعرف، وأخبر أن الذي يكتم العلم ملعون، وأن الله يلعنه، والملائكة تلعنه، والدواب تلعنه، وكل لاعن يلعنه.

الثاني: رحمة الناس وطلب هدايتهم؛ لأن المسلم أخو المسلم، يجب عليه أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولا يكون له مقصد آخر فيهلك، فهذا الذي يكون له نصيب من قول الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨]، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى الكافر ويقول له: يا أبا فلان! ألا تسمع مني، هكذا يقول، يكنيه بكنيته ويقول: ألا تسمع مني؟ ما يقول له: قف أكلمك! وأنت كذا وكذا، وليس معنى ذلك أنه يوده، إن هذه هي الطريقة للسماع، ولإيصال الحق للناس، فالنفوس جبلت على أنها لا تقبل ممن ينتقصها ويزدريها، بل تزدريه وتتنقصه، وربما زاد الأمر فوق ما يتصوره هو، وهذا شيء يقع فيه كثير ممن يتصدى للدعوة والبيان؛ إما لأنه لم يصل في العلم إلى الدرجة التي يجب عليه أن يصل إليها، وإما لسوء نية وطوية عنده، وإما لغير ذلك من الآفات التي تعترض الإنسان.

فعلى الإنسان أن يتقي ربه، وألا يكون سبباً في خلاف الأمة، سواء كانت الأمة التي تختلف بسببه كثيرة أو قليلة.

[قوله: رواه البرقاني في صحيحه، هو الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة، قال الخطيب: كان ثبتاً ورعاً، لم نر في شيوخنا أثبت منه، عارفاً بالفقه، كثير التصانيف، صنف مسنداً ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان، وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة.

وهذا الحديث رواه أبو داود بتمامه بسنده إلى أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله ـ أو قال: إن ربي ـ زوى لي الأرض، فأريت مشارق الأرض ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، ولا يسلط عليهم عدواً سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها ـ أو قال: بأقطارها ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضاً، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق -قال ابن عيسى: ظاهرين، ثم اتفقا- لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى)].