للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قضاء الله لا يرد]

قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جل وعلا يقول: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد)، قال بعضهم: إن هذا القضاء إذا كان قضاءً مبرماً، وهذا ليس صحيح، فالقضاء الذي يقضيه الله جل وعلا كله لا يرد، كل قضاء يقضيه ليس له راد، فلا راد لما قضى جل وعلا، وكل شيء يقع في الكون قد قضاه الله جل وعلا؛ لأن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومقادير الأشياء تعم كل شيء {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:٨]، وقد أخبر جل وعلا: أنه ما تسقط من ورقة من شجرة ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب، والكتاب هذا هو الكتاب الذي كتبه جل وعلا قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وليس فيه زيادة ولا نقص.

وفي هذا الكتاب أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وأسماء قبائلهم، وأهل النار كذلك ما يزاد عليهم واحد، ولا ينقص منهم واحد، فكل شيء قد كتب وانتهى ولا يرد ذلك، ثم لا يتصور الإنسان أن معنى هذا أنه مجبر على الشيء، مقهور عليه؛ لأن هذا غيب، والله أمر الخلق بأن يعملوا ويجتهدوا ويحرصوا على الخير، فهم لا يعرفون الكتاب؛ فالإنسان لا يعرف ماذا كتب عليه، ومع ذلك لا يعمل شيئاً إلا وقد كتب، كل شيء يعمله مكتوب لا يمكن أن يخرج عن هذه الكتابة؛ لهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل).

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن المؤمن القوي في إرادته وفي عمله أحب إلى الله، وأنه أكثر خيراً من المؤمن الضعيف الكسلان؛ لأن خيريته في العمل، ثم أرشد صلى الله عليه وسلم إلى الشيء الذي ينفع فقال: (احرص على ما ينفعك)، والحرص هو بذل الوسع والاجتهاد بالطلب حتى لا يترك شيئاً، (احرص على ما ينفعك ولا تعجزن) لا تقل: إذا كان المكتوب علي كذا وكذا فلا فائدة، لأن الكتابة حصلت لكل شيء، الأسباب والمسببات كتبت، وأنت أمرت بالعمل، فعليك أن تمتثل الأمر وتجتهد، فإن بذلت السبب واجتهدت ثم لم تتحصل على النتيجة المطلوبة فهنا لا تلوم نفسك، ولا تلوم القدر وتقول: لو أني فعلت كذا وكذا، ولا فائدة في هذا، هذا فيه تحسر، وفيه ميل إلى ما يريده الشيطان، وهو التأفف والحسرة، ثم بعد ذلك يكره الواقع ويبغض ما وقع له، وإنما على الإنسان أن يعلم أن هذا شيء مقدر لا يمكن أن يرد، ولا يمكن أن يقع خلافه ولو عمل أي عمل.

والمقصود: أن الكتابة السابقة لا تنافي العمل ولا تنافي الحرص، فإن كل شيء مكتوب، والله جل وعلا قد علم من هذا المخلوق أنه سيوجد، وسيكون عنده ميل إلى الباطل ومحبة له وبغض للحق، وعدم إرادة له، فكتب ذلك فوقع على وفق كتابته، ويعلم أن هذا المخلوق الآخر عنده حب للحق وكراهية للباطل، وعمل للحق وإرادة له، فكتب ذلك فوقع كما كتب {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:٥ - ١٠]، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل ميسر لما خلق له) يعني: أن العمل الذي يكتسب به الخير يسهل عليه وتتيسر له أسبابه، ومن ذلك الاجتهاد، وإذا اجتهد لا يلوم الإنسان نفسه، بخلاف إذا فرط فإن اللوم عليه؛ ولهذا قال بعض السلف لما ليم بكثرة الاجتهاد: سوف لا أدخر شيئاً من اجتهادي حتى لا أندم إذا ألقيت في النار، فأقول: قد بذلت ما أستطيع، فلا أندم على نفسي، وإن كان في الجنة فلن يضيع الله عمله واجتهاده، وسوف يرفع درجة.

ثم وقت الإنسان قصير، فعلى الإنسان أن يتأمل ما ذكره الله جل وعلا عن الساعة، أخبر أنها كلمح البصر أو هي أقرب، فأخبر جل وعلا عن المجرمين أنهم يقسمون ويحلفون بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة، هل نسوا؟ ما نسوا، هم يعرفون أنهم لبثوا في الدنيا كذا وكذا، ولكن هي كأنها ساعة فقط أو أقل من الساعة كلمح البصر، فلا يجوز أن يذهب هذا الوقت القصير الذي سوف ينسى في اكتساب السيئات والقرب إلى النار، يجب أن يجتهد الإنسان، ويكتسب بهذه السويعات القليلة رضا الله والسعادة الأبدية، ويحرص على ما ينفعه، ولا يعجز كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث كما يقول ابن القيم: يجب أن يتعلمه كل مسلم وأن يعمل به، فإن كل واحد مضطر إليه ضرورة، (احرص على ما ينفعك ولا تعجزن)، وكل نقص يأتي في الإنسان فهو من عدم العمل بهذا الحديث.