للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين)]

قال الشارح رحمه الله: [قوله: وروى أبو داود أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم سبعين عاما قلت: أمما بقى أو مما مضى؟ قال: مما مضى)].

معنى: (تدور رحى الإسلام) أي: دوران الرحى على أهل الإسلام، والرحى إذا دارت تطحن، وطحنها هنا يكون البشر، وهذا من الإخبارات التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها ووقعت كما أخبر، فدارت الرحى في آخر أيام الصحابة، فقتل فيها خلق كثير جداً، وهذا عبارة عن الحروب التي وقعت بين أهل الشام وأهل العراق، أهل الشام مع معاوية، وأهل العراق مع علي بن أبي طالب، وما كان قبلها في قتال الجمل وغيرها، فقد اشتغلوا بالقتال بينهم، وتركوا قتال الكفار حتى طمع الكفار في بلادهم، وأخذوا أطراف البلاد بسبب ذلك.

وقوله: (إن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم الأمر فسبعين سنة) المقصود بقيام الأمر: الأمر الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل ما جاء في الحديث الصحيح: (خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته، ويظهر فيهم النفاق والسمن) فالقرون التي مضت كانت في عافية وفي خير، فصارت الفتن في المتأخرين.

وفي الصحيح من حديث أنس أنه قال: (لا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه، سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم) وهذا عام، ولكن ليس معنى ذلك أن الشر يكون في كل فرد، ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود النسبة، فإن الشر في المتأخرين نسبته أكثر من نسبته في المتقدمين، حتى يأتي الزمان الذي قبيل قيام الساعة، ولا يعرف أحد الله، ولا يذكر اسمه جل وعلا، ويتهارجون كتهارج الحمر، فهم شرار خلق الله، وعليهم تقوم الساعة.

والساعة عبارة عن نفخ الصور، هذه هي الساعة، ونفخ الصور هو نفختان، النفخة الأولى لهلاك من كان حياً، وذهاب كل شيء حتى الجبال تصبح كالعهن المنفوش، كما قال الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:١٠٥ - ١٠٧] وتتفطر الأرض وتتصدع، والسماء كذلك، وتسقط النجوم كالمطر، مطر ولكن من نجوم! أهوال هائلة جداً {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:٤٨]، ثم بعد ذلك ينفخ في الصور نفخة أخرى، فيحيا كل ميت، ويجمعون في هذه الأرض التي بدلت، ومدت مد الأديم حتى تتسع لهم، والملائكة يحيطون بهم، فيبقون قياماً وقتاً طويلاًَ جداً لا يتصوره الإنسان، ولا يعقل أن الإنسان يستطيع أن يبقى كذا، ولكن لا يوجد موت، والبعث بعد النفخ في الصور النفخة الثانية، وتستقر كل روح في جسدها بعدما ينبت في قبره، وهذا الاستقرار ما يقبل المفارقة، استقرار للروح واتصال بالبدن اتصالاً ما يقبل المفارقة أصلاً، ما فيه موت أبداً، وإنما عذاب أبدي دائم أو نعيم سرمدي ما دامت السموات والأرض.

ولهذا يقول الله جل وعلا في أهل العذاب: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:١٧] يعني: تأتيه أسباب الموت لو قدر أنه يموت لكن لا يوجد موت، يلقى في جهنم ويصبح وقوداً لها ولا يموت، وإنما يحترق جلده ولحمه ثم يعاد، يحترق ثم يعاد، وهكذا وإذا استغاث من الظمأ يغاث بماء يشوي الوجه، إذا قربه من وجهه ليشربه سقطت فروة وجهه فيه من شدة حراراته، وإذا شربه صار يغلي في بطنه كغلي الحميم، عذاب لا يتصوره الإنسان! لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من هذا العذاب.

هذا الذي ينتظر الإنسان، ولكن هل يعقل الإنسان ذلك ويتصوره؟ لو تصوره كما ينبغي ما يمكن أن يهنأ له عيش أو نوم أو راحة أبداً، سيكون كما يقول بعض السلف: كيف يهنأ لي نوم والله توعدني بالنار إذا عصيته؟! والله! لو توعدني أن يسجنني في حمام لحق لي أن أبكي وألا أستقر، فكيف وقد توعد أن يسجن العصاة في جهنم؟! ولكن الإنسان ظلوم مع جهله، وهذه حكمة الله جل وعلا.