للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة سحر النبي صلى الله عليه وسلم]

ورد أن اليهود جاءوا إلى لبيد بن الأعصم وهو ساحر بني زريق، فجعلوا له جعلاً فقالوا: أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمداً فما أثر ذلك به، فنريد أن تسحره، فوضع السحر، فأثر به صلى الله عليه وسلم.

وذكر الواقدي عن مدة سحره وعن وقته: أن ذلك كان بعد رجوعه من غزوة الحديبية، والمدة ذكر فيها روايتين وذكرهما تلميذه ابن سعد أحدهما: أنه بقي مسحوراً أربعين يوماً، والأخرى: أنه بقي مسحوراً ستة شهور صلوات الله وسلامه عليه، وكان في أول الأمر وكل الأمر إلى الله، وترك العلاج توكلاً على الله واعتماداً عليه، ثم لما أثر فيه عالجه بالعلاج الصحيح وهو الدعاء، فلهذا تقول عائشة: (سحر حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشيء ولا يصنعه، فلما جاء عندي ذات يوم أو ليلة دعا ودعا، ثم قال لي: يا عائشة! أعلمت أن الله أفتاني؟ إنه أتاني آتيان -أو قال: ملكان- فجلس أحدهما عند رجلي، والآخر عند رأسي، فقال أحدهما للآخر: ما بالرجل؟ فقال: طب -والطب هو السحر- فقال: ومن طبه؟ فقال: لبيد بن الأعصم بمشط ومشاطة، في جف طلع نخلة ذكر في بئر ذروان، ثم إنه صلى الله عليه وسلم ذهب إليها هو وبعض أصحابه يقول: فرأيت ماءها كنقيع الحناء، ورءوس نخلها كرءوس الشياطين -وهي بئر رجل من اليهود- فأمر بها فدفنت، فقلت: يا رسول الله! ألا استخرجته؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أفتح للناس باب شر) هذا في رواية البخاري.

وقوله: (إنه لبيد بن الأعصم) هذا يهودي من اليهود السحرة، وهو من بني زريق.

وقوله: في (مشط ومشاطة) المشط: هو الذي يمشط به الشعر، والمشاطة: هي التي تخرج عند مشط الشعر من الشعر والوسخ وما أشبه ذلك، أخذها ووضعها مع المشاطة في طلع نخلة ذكر يعني: كافور النخلة الفحل، أخذ هذا الشيء ووضعه في الكافور ثم وضع هذا الشيء في البئر، وهذا مع النفث، ومع الشيء الذي يكون بواسطة الشيطان.

وهكذا يصنع السحرة! ولهذا إذا أخرج السحر وأحرق أو أتلف فإنه يبطل سحره، ولهذا يحافظ السحرة على هذا الشيء الذي يصنعونه، وبعضهم ربما وضعه في معدن وغلق عليه برصاص فحافظ عليه كثيراً حتى يبقى السحر؛ لأنه إذا ذهب وزال انتهى السحر.

فذكر صلوات الله وسلامه عليه أنه دعا، فاستجاب الله وشفاه، ولكن بعد ما عرف أنه سحر بواسطة الملائكة، وأن هذا هو الذي سحره.

ولم يعاقب هذا الرجل الكافر الخبيث، ومعلوم أن المعاهد إذا فعل مثل ذلك ينتقض عهده.

ولهذا استدل بعض العلماء بهذا الحديث: أنه لا يقتل الساحر، وليس كذلك؛ لأن هذا حق للنبي صلى الله عليه وسلم يتعلق بنفسه وبجسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وله أن يحكم به بحكم الله، وله أن يعفو، فعفا مثل ما عفا عن اليهودية التي وضعت له السم في اللحم ولم يقتلها، مع أن الذين أكلوا معه أحدهما مات من السم، والعلماء يقولون: إذا وضع شخص سماً لأحد حتى قتله فإنه يقتل به، فالمقصود أن هذا لا يكون دليلاً على عدم القتل، وسيأتي أن حده ضربة بالسيف حتى يموت، وفي هذا دليل على تأثير السحر بالبدن، وفيه دليل على أن السحر يشفى الإنسان منه بالأدعية والرقية بكتاب الله وبأسمائه، وهذا أمر مجرب نافع جداً، ولكن ما وجد لكل أحد، إن كان الإنسان عنده إيمان وقوة وتصديق في ذلك فإنه بإذن الله يزول بسرعة، ويشفى كما شفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبطل سحر الساحر بذلك، ولا سيما إذا عزم عليه بالآيات التي تناسب مما ذكر فيها السحر وإبطاله، وأن الساحر لا يفلح وما أشبه ذلك، وآيات الله كلها فيها شفاء كما قال الله جل وعلا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:٨٢] والصواب أنه شفاء عام، شفاء للأبدان، وشفاء للقلوب، وشفاء للأمراض والشبهات والشهوات وغيرها، هو شفاء عام، لكن لا يجوز أن يستعمل الاستعمال السيئ الذي يستعمله بعض الناس، حيث يجعله طريقاً لكسب المال فقط، ثم يلبس على الناس ويصير مقصوده فقط استغلال الناس وابتزاز أموالهم، وهذا لن يشفى أحد ممن يقصده إذا كانت هذه طريقته وهذا مقصوده، ولكن قد يشفى إنسان منهم بإرادة الله، وليس بسبب علاج هذا الذي يريد الدنيا.

فهذا يدلنا على أن العصمة التي أخبر الله جل وعلا عن نبيه أنه يعصمه ليست في بدنه، وإنما هي فيما يبلغه عن الله جل وعلا، وهذا باتفاق العلماء: أن الشيء الذي يبلغه عن الله جل وعلا من الدين وغيره أنه معصوم فيه، وأنه يقع فيه شيء خلاف ما أوحاه الله جل وعلا.