للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مكفرات الذنوب غير الشرك]

قال الشارح: [وساقه البخاري بسنده فقال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حدثنا أبي حدثنا الأعمش، حدثني إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:٨٢] قلنا: يا رسول الله! أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون (لم يلبسوا إيمانهم بظلم) بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣] ولـ أحمد بنحوه عن عبد الله قال: (لما نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:٨٢] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣] إنما هو الشرك)].

هذا لا يدل على أن الذنوب ليست ظلماً، ولكن يدل على أن الظلم المطلق الذي لا يكون معه أمن ولا اهتداء هو الشرك، أما الذنوب والمعاصي فإن وقعت من الإنسان فإنه يرجى له الخير إذا مات على التوحيد، بل يعلم يقيناً بأنه من أهل الجنة، وأن مآله إليها وإن عذب وإن ناله ما ناله ما دام ليس معه شرك، فمثل هذا لا يقال: إنه ليس له أمن وليس له اهتداء، بل له الأمن والاهتداء؛ لأن مآله إلى ذلك، فإن حدث له تعذيب وعرض له عارض فإنه يزول بخلاف المشرك، فإن الشرك ليس معه لا أمن ولا اهتداء.

فصار كلام الرسول صلى الله عليه وسلم موضحاً لهذا ومبيناً له.

وفيه أن الإنسان وإن كان وقع في معصية فإنه على رجاء من الله وعلى خير، ويرجى له أن يكون مهتدياً ويكون آمناً، والذنوب -ما عدا الشرك- لها طرق كثيرة لإزالتها ومغفرتها، منها كون الإنسان يتوب منها، فالتوبة تمحو جميع الذنوب التي سبقت التوبة إذا كانت التوبة صادقة ونصوحاً.

والتوبة النصوح ما اجتمع فيها شروط التوبة، وشروطها أربعة: أن يندم الإنسان على زلته وعلى ما وقع من الذنب ويود أنه ما وقع منه، وأن يعزم عزماً جازماً على ألا يعود إليه، وأن يقلع عن الذنب ويتركه، وإن كان مع الذنب مظلمة لغيره من الخلق من الناس فيضاف إلى ذلك أنه يستحل صاحب الحق أو يؤدي إليه الحق، فإذا حصلت هذه الأمور فإن الله جل وعلا يتوب عليه، وقد ندب عباده جل وعلا إلى التوبة، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:٣١]، وهذا لأن المؤمن لابد أن يقع له ذنوب، فأمر الله جل وعلا عباده أن يتوبوا، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:٨]، والتوبة النصوح هي هذه التي ذكرناها بالشروط.

والأمر الثاني: أن المصائب التي تقع للإنسان سواء في الدنيا وفي نفسه أو في ماله أو في ولده أو في أقربائه، هذه تكفر ذنوبه، تكون كفارات لذنوبه.

الأمر الثالث: الطاعات التي تقع منه فإن الحسنات يذهبن السيئات، ويكون ذلك أيضاً من المانع من العذاب بالحسنات التي يعملها.

الأمر الخامس: الدعوة التي تحصل له من المؤمنين سواء إخوانه المؤمنون أو الملائكة، فالملائكة يدعون ويستغفرون للمؤمنين، كما أخبرنا الله جل وعلا بذلك، وكذلك المؤمنون بعضهم من بعض، وكذلك منها الصلاة عليه إذا مات، كصلاة المؤمنين عليه واستغفارهم له وشفاعتهم له، فإن هذا قد يكون مانعاً له من أن يعذب، وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك.

الأمر السابع: ما يصاب به من عذاب القبر وضغطته.

فإن هذا يكون تكفيراً له.

الأمر الثامن: ما يقع له في المواقف -كموقف القيامة- من الشدائد والأهوال التي تمر عليه، فإنها تكون أيضاً مكفرة لذنوبه.

الأمر التاسع: إذا لم يكف هذا فالنار تطهر أهل القاذورات من المعاصي.

الأمر العاشر: رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء، فإنه إذا شاء غفر لعبده وإن كانت جرائمه كثيرة جداً، ولا يبالي جل وعلا، فهو غفور رحيم.

فكل هذه أسباب لمنع العذاب عن المؤمن، وهناك غيرها مما هو معروف من الشرع.

[وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون المعنى: الأمن من كل عذاب.

وقال الحسن والكلبي: أولئك لهم الأمن في الآخرة وهم مهتدون في الدنيا].

هذا لا ينافي تفسيره بالشرك، كونه فسر بالذنب لا ينافي تفسيره بالشرك؛ لأن تفسيره بالشرك وجهه ما ذكرنا، فيكون المعنى: ليس لمن أشرك بالله أمن مطلق، ولا اهتداء مطلق أما المذنب فله نوع من الأمن، وله نوع من الاهتداء، ولا ينفى عنه الأمن ولا الاهتداء، فيكون تفسير هذا متفقاً مع التفسير الأول.