للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أجناس الظلم الثلاثة]

[وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به)، فبين أن المؤمن إذا مات فدخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب، فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة الشرك وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك كان له الأمن التام والاهتداء التام].

هذه هي أجناس الظلم، وأما قول أبي بكر رضي الله عنه فهو لما نزل قوله جل وعلا: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣]، فـ (من) هنا شرطية، والجزاء يرتب على الشرط، لذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: أينا لا يعمل سوءاً؟ يعني: لا يوجد أحد ينفك من عمل السوء.

فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من الجزاء الذي يقع هو ما يقع في الدنيا من الجوع والظمأ، وما يصاب به الإنسان من المشقة والمرض والمصائب وإدالة العدو وما أشبه ذلك، فكل ما أصاب المؤمن ولو كلمة تسوؤه من آخر فإنها تكون كفارة لما اجترح وأصاب، فهذا الذي يجزى به، فالرسول صلى الله عليه وسلم فسره بذلك.

وأنواع الظلم التي ذكر هي هذه التي لا يخرج عنها الناس، ظلم يكون بين العبد وبين ربه، وهذا يكون بترك واجب أو فعل محرم، ترك واجب أوجبه الله جل وعلا على الإنسان فيما بينه وبينه، فيما بين العبد وبين ربه جل وعلا، فإذا ترك شيئاً منه فهو ظلم، وهو لله جل وعلا، فله أن يجزي هذا الظالم على ظلمه وله أن يعفو.

والنوع الثاني: الظلم الذي يقع بين العباد بعضهم من بعض، من أخذ الأموال أو التعدي على الأعراض والأجساد أو استطالة في العرض بالكلام بأن يقال فيه ما ليس فيه، أو يقال فيه ما فيه في غيبته، فإن هذا من الظلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بين الغيبة قال: (ذكرك أخاك بما يكره.

قيل له: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهت: هو أشد الظلم وأعظمه فكذلك سائر الحقوق التي تقع من إنسان على الآخر إذا فرط فيها أو ظلمه فيها فإنه يطالب بأدائها، فهذا نوع آخر.

أما النوع الثالث فهو أشدها وأعظمها، وهو الشرك، ولهذا جاء في الأثر أن الدواوين ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً.

ومعنى (لا يعبأ) أنه سهل وهين عند الله، يغفره ولا يبالي.

وديوان لا يترك الله منه شيئاً.

فالذي لا يعبأ الله به شيئاً هو ظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين ربه، إذا شاء أن يغفره غفره جميعاً ولا يبالي به، ولو لم يتب الإنسان منه، وأما الذي لا يترك الله منه شيئاً فهو حقوق العباد بعضهم لبعض، فلابد أن تؤدى، ولابد من أداء الحقوق إلى أهلها، ولابد من القصاص يوم القيامة، حتى المؤمنون من أهل الجنة إذا خلصوا من المناقشة ومن الموقف وخلصوا من الصراط وعبروه أوقفوا في قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لبعضهم من بعض وهذبوا وطهروا، فلا يدخلون الجنة حتى تكون قلوبهم صافية ليس فيها غل على أحد.

وهؤلاء الذين علم الله جل وعلا أن هذا الذنب لا يقضي على حسناتهم بل تبقى حسناتهم التي يسكنون بها الجنة، وأما المظالم العظيمة فإنها تكون في الموقف قبل العبور على الصراط، كل مظلمة تؤدى إلى صاحبها حسنات، والناس وكل واحد يفرح أن يكون على أخيه حق، حتى الوالدة تتمنى أن يكون لها حق على ولدها وبالعكس، ولهذا يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٦]، ولماذا يفر من أمه وأخيه وأبيه وزوجته؟! هؤلاء هم أقرب الناس وأحبهم إليه، ومع ذلك يفر منهم ويكره أن يراهم، وفراره منهم خوف المطالبة بالحقوق، والمطالبة بالحقوق تكون بالحسنات، يؤخذ من حسناته ويوفى المظلوم حقه، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار، ولهذا جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون من المفلس؟) ثم قال: (المفلس من أمتي من يأتي بحسنات كثيرة، ويأتي قد ظلم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار).

أما الديوان الثالث الذي لا يغفر الله منه شيئاً فهو الشرك، إذا مات الإنسان مشركاً فهو في النار قطعاً بلا شك لا يغفر له؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، فأخبر جل وعلا أن المشرك لا يغفر له، ويقول جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:٧٢]، فالشرك هو الظلم المطلق الذي ليس بعده ظلم، وهو الذي أخبر الله جل وعلا أن صاحبه في النار، غير أن الشرك نوعان وقسمان: شرك أكبر: وهو أن يجعل مع الله نداً في العبادة.

أن تجعل العبادة مقسومة بين الرب جل وعلا وبين أحد من الخلق، والعبادة كلها ما أمر الله جل وعلا به وما نهى عنه، إذا فعل المأمور لأجل مخلوق أو ترك المنهي عنه لأجل مخلوق فإن هذا من الشرك، أما العبادة القلبية التي فيها الحب والخوف والذل والإنابة فهذه إذا وقعت لمخلوق تكون من أعظم الشرك وأكبره.

القسم الثاني: شرك أصغر وهذا لا يخرج الإنسان عن كونه مسلماً، ولا يجعله خالداً في النار، ولكنه من النوع الذي يعذب عليه إذا لم يعف الله جل وعلا عنه، وهو على القول الصواب الصحيح داخل في الكبائر التي تكون تحت المشيئة.