للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خلاف العلماء في توبة القاتل]

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (السحر) تقدم معناه، وهذا وجه مناسبة الحديث للترجمة.

وقوله: (وقتل النفس التي حرم الله) أي: حرم قتلها، وهي نفس المسلم المعصوم.

قوله: (إلا بالحق) أي: بأن تفعل ما يوجب قتلها كالشرك، والنفس بالنفس، والزاني بعد الإحصان، وكذا قتل المعاهد كما في الحديث: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة).

واختلف العلماء فيمن قتل مؤمناً متعمداً هل له توبة أم لا؟ فذهب ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما إلى أنه لا توبة له، استدلالاً بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:٩٣].

وقال ابن عباس: (نزلت هذه الآية وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء).

وفي رواية: (لقد نزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي).

وروي في ذلك آثار تدل لما ذهب إليه هؤلاء، كما عند الإمام أحمد والنسائي وابن المنذر عن معاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً).

وذهب جمهور الأمة -سلفاً وخلفاً- إلى أن القاتل له توبةً فيما بينه وبين الله، فإن تاب وأناب وعمل صالحاً بدل الله سيئاته حسنات، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:٦٨ - ٧٠] الآيات.

قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء:٩٣] قال أبو هريرة وغيره: (هذا جزاؤه إن جازاه)].

في هذه المسألة خلاف كما سمعنا، من العلماء من قال: لا توبة له، فقاتل النفس ليس له توبة، ولابد أن يعاقب على هذا القتل، وقد توعده الله جل وعلا بالنار فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣].

كذلك الحديث الذي ذكره: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً) يعني: أن هذا لا يعفى عنه، وهذا قول بعض العلماء، وقال الجمهور: إن له توبة، والتحقيق في هذا: أن قتل النفس يتعلق فيه ثلاثة حقوق: حق لأولياء المقتول، وحق لله جل وعلا، وحق للمقتول نفسه.

فأما حق أولياء المقتول فإنه يسقط بالقصاص أو بدفع الدية، وأما حق الله جل وعلا فإنه يسقط بالتوبة، ويبقى حق المقتول لابد من أدائه، ولابد أن تؤدى الحقوق إلى أصحابها، لأنه يأتي يوم القيامة ممسكاً قاتله فيقول: يا رب! اسأل هذا فيم قتلني؟ فهل يضيع حقه؟ لا.

لن يضيع حقه.

وهذا وجه استدل به الذين يقولون: إنه لا توبة له.

يعني: أن هذا لا يمكن حتى يؤدي حق المقتول يوم القيامة.

وكيف يؤدي حقه؟ التأدية في ذلك اليوم بالحسنات والسيئات فليس هناك غيرها، ومن كان له حق على الآخر فلابد أن يستوفيه ولكن من حسناته، فإن لم تف حسناته بذلك فإنه يؤخذ من سيئات صاحب الحق ويطرح عليه حتى يستوفي، حتى إذا لم يبق له حسنة طرح في النار.

فمن هنا قال من قال: إنه لا توبة له.

يعني: إن هذا غير ممكن، وأما فيما بينه وبين الله فله التوبة، ويجوز أن الله جل وعلا يرضي المقتول عن القاتل في ذلك الموقف إذا شاء، ولهذا جاء: (أن المقتول يأتي ممسكاً بالقاتل يقول: يا رب! اسأل هذا فيم قتلني؟ فيقول الله جل وعلا للقاتل: تعست)، ومن تعس في ذلك اليوم خسر وهلك.

وقد ثبت في الصحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً ممن سبق كان مسرفاً على نفسه، يعني: كان قتالاً سفاكاً للدماء، قتل تسعة وتسعين رجلاً، فذهب يلوم نفسه لماذا هذا التمادي في الضلال؟ فذهب يسأل الناس: دلوني على عالم؟ فدلوه على رجل عابد فسأله: هل لي من توبة؟ فقال: لا.

فالإنسان إذا قتل نفساً واحدة فكأنما قتل الناس جميعاً، كيف وقد قتلت تسعة وتسعين نفساً؟ فقال: ما دام أنه ليس لي توبة إذاً أكمل بك المائة، فقتله، وبعد ذلك أراد الله به الخير، وسار يسأل ويبحث جاداً: دلوني على عالم من أهل الأرض؟ فدلوه على رجل عالم، فذهب وسأله فقال: قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ قال له: نعم.

ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكنك من بلد أهله مسرفون، ولكن اخرج إلى البلد الفلاني فأهله أهل خير وصلاح فاذهب واعبد الله معهم، فتاب وذهب إلى ذلك البلد، وفي أثناء الطريق قبل أن يصل البلد أدركه الموت، فجاءته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، كل يريد أن يقبضه ويتولاه، وملائكة الرحمة يقولون: جاء تائباً صادقاً في توبته، وملائكة العذاب يقولون: إن هذا ما فعل خيراً قط، وهو سفاك للدماء، فنحن أولى به، فبعث الله جل وعلا إليهم ملكاً ليحكم بينهم فتحاكموا إليه، فقال: قيسوا ما بين البلدين فإلى أيتهما كان أقرب فهو من أهلها؟ فقاسوا فوجدوه أقرب إلى بلد الخير بشبر أو ذراع فقبضته ملائكة الرحمة.

وجاء في رواية: إنه وهو يكابد الموت كان ينوء بصدره يريد أن يقرب ويريد أن يسير، ينوء بصدره ويعجز عن المسير؛ فدل ذلك على صدقه وصدق إقباله.

وجاء في رواية: أن الله أوحى إلى البلد الطيب أن تقاربي وإلى البلد الخبيث أن تباعدي، فقبضته ملائكة الرحمة.

إذا جاء شرع من قبلنا يوافق شرعنا فهو شرع لنا، أما إذا جاء مخالف له فمعلوم أن شرعنا مهيمن على الشرائع كلها وقاض عليه، وقد حذر الله جل وعلا من القتل، والمقصود: أن قاتل النفس تكون عليه هذه الحقوق الثلاثة: حقان يسقطان، ويبقى حق، وهذا مدار الكلام هل له توبة أم لا؟ فالذي يقول: ليس له توبة معنى ذلك: أنه يقول: لابد من استيفاء حق المقتول، وهذا حق لابد من استيفائه.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء:٩٣] قال أبو هريرة وغيره: هذا جزاؤه إن جازاه.

] هذا تأويل، (إن جازاه) ويجوز ألا يجازيه، والمعنى أنه يجوز أن يعفو عنه رب العالمين، وإلا إن جازاه فهذا جزاؤه الذي يستحق.

قال الشارح رحمه الله: [وقد روي عن ابن عباس ما يوافق قول الجمهور، فروى عبد بن حميد والنحاس عن سعيد بن عبيد: أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: (لمن قتل مؤمناً توبة)، وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما.

وروي مرفوعاً: (أن جزاؤه جهنم إن جازاه)].