للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل الشهادة في سبيل الله]

المؤمن الصادق يتمنى لقاء العدو من أجل أن يكون شهيداً؛ لأن الشهادة أشرف الموت، ولا موت أشرف من موت الشهداء، والذي يقدم على ذلك يكون مصدقاً لله ولرسوله بما يترتب على ذلك من الجزاء ومن الأمور التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن الشهيد يؤمن فتنة القبر، وهذه خصلة عظيمة.

ومنها: أن زوجاته الحور العين تحضره عند موته.

ومنها: أن الله جل وعلا يبيح له التمتع بالجنة قبل القيامة، وتجعل روحه في حوصلة طير تعلق من شجر الجنة، وروحه تتمتع بالجنة كيف يشاء، ويعلق في الجنة بأي شجرة يريد.

ومنها: أنه يشفع في سبعين من أهله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت أدخله الله الجنة هاجر أو جاهد أو مات في بلده الذي ولد فيه فقالوا: ألا نبشر الناس يا رسول الله؟! قال: إن الله أعد للمجاهدين في الجنة مائة درجة، ما بين الدرجة والأخرى مثل ما بين السماء والأرض) يعني: أن المجاهدين لهم مائة درجة في الجنة، والدرجة معناها: المنزلة، فكل درجة جنة، وما بين كل واحدة والأخرى مثل ما بين السماء والأرض، فلا يجوز التفريط في ذلك لمن يؤمن بهذا ويصدق به، بل عليه أن يتسابق إلى هذه الأشياء.

وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل) يعني: يقتل ويحيا أربع مرات؛ لما في الشهادة من الفضل، وكل ميت من المؤمنين إذا رأى جزاءه لا يود أن يرجع إلى الدنيا وإن كان ما كان، إلا الشهيد فإنه يود أن يحيا ثم يقتل؛ لما يرى من عظم كرامة الله جل وعلا له.

ولما بكى جابر بن عبد الله على أبيه الذي قتل في أحد قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما أبوك فإن الله كلمه كفاحاً، وقال له: يا عبدي! تمنى علي، قال: ماذا أتمنى وأنا أرى ما أرى؟ فلما أكثر الله جل وعلا عليه طلب التمني، قال: يا رب! أريد أن تعيدني مرةً أخرى إلى الدنيا فأقتل، فقال: أما هذه فلا) لأن الله قضى ألا يعاد الميت مرةً أخرى إلى الدنيا.

وكذلك جاء في الشهداء الذين قتلوا في مسيرهم عند أن سيرهم الرسول صلى الله عليه وسلم لتعليم بعض من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم بأن قومه آمنوا، ثم اجتمعوا عليهم وقتلوهم غدراً، ولم يعلم بهم أحد، فأخبر الله جل وعلا عنهم نبيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال لهم: يا عبادي! تمنوا علي -ولما هم فيه مما يشاهدون من الفضل العظيم- قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا مرةً أخرى فنقتل في سبيلك) وهكذا الشهيد يتمنى أن يتحصل على شهادة أخرى.

فإذا فر الإنسان عن قتال الكفار فمعنى ذلك أنه قدم الدنيا على الآخرة، ورغب بالدنيا عن الآخرة؛ ولهذا توعد بهذا الوعيد إلا إذا كان متحرفاً لقتال، ومعنى المتحرف للقتال: أنه يفر أمامهم ليريهم الفرار خدعة، ثم يكر عليهم من جهة أخرى فيكون ذلك أشد تنكيلاً فيهم، كما يفعله من يفعله من الشجعان، فإنه يُري العدو أنه منهزم حتى يتمكن منه ثم يرجع إليه فيتمكن من قتله ومن التنكيل به، أو أن يذهب إلى جهة أخرى ليساعد إخوانه من المسلمين الذين في الجانب الآخر على القتال، فلما كان هذا قد يظن أنه يكون فراراً بيَّن الله جل وعلا أنه ليس تولياً؛ لأنه يريد أن يتصرف في قتال العدو بما هو أنفع للمسلمين وأشد تنكيلاً بالعدو.