للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث: (من عقد عقدة ثم نفث فيها)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه)].

إذا كان النظر لأجل الاستدلال على أمور تقع فإن هذا من الشرك بالله جل وعلا، ومن السحر الذي هو محرم.

أما إذا كان النظر في النجوم لأجل الاستدلال على الجهات -جهات القبلة أو جهات المسير- أو الاستدلال على أن هذه آيات على خالقها جل وعلا، ويتفكر في بعدها وكبرها ومسيرها؛ فهذا لا بأس به، والنجوم مختلفة على حسب اختلاف الأفلاك؛ لأن لكل نجم فلكاً يدور به، وبعضها قد يكون دورانها عكسي، يعني: بعضها يدور عكس دوران البعض الآخر، فإذا كان النظر فيها من هذا القبيل فإنه جائز ولا بأس به، بل يحمد فاعله على ذلك.

وكذلك إذا كان النظر في معرفة منازل القمر بأعيانها؛ لأن الله أخبر أنه قدره منازل، وكل ليلة بينها وبين الأخرى مسافة محددة، وما بين المنزلة والمنزلة ثلاثة عشر يوماً في الطلوع أو الغروب، وتنتهي بانتهاء السنة، يعني: طلوعاً وغروباً، فإذا كان ينظر ذلك لمعرفة المنازل ومعرفة الوقت والزمن ويستدل بها على وجود الله وآياته وعظمته فلا بأس بتعلم هذا، وما عدا ذلك فإنه لا يجوز النظر فيه؛ لأنه داخل فيما ذكر من السحر.

وأما الحديث الذي ذكره: (من عقد عقدةً ونفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه) فهذا يشمل حتى الإنسان الذي لا يحسن السحر، فإذا كان يتشبه بالساحر فهو داخل في هذا، كما يصنعه بعض الجهلة، إذا أراد شيئاً جاء بخيوط ثم تكلم بكلام ويقول: لا يكون هذا -أي: الذي لا يريد أن يكون- فيعقد عقدة، ثم يتفل عليها ليؤكد ذلك، فيكون بهذا التشبه بالساحر ساحراً، ولو لم يكن ساحراً، فيدخل في قوله: (من عقد عقدةً ونفث فيها فقد سحر)؛ لأنه فعل فعل السحرة، وإن لم يكن محسناً للسحر.

ومعروف أن عقد السحرة على هذا المنوال نوع من السحر، وقد أمر ربنا جل وعلا بالاستعاذة منهم.

والسحر أنواع متعددة وسبق ذكر بعض أنواعه وهذا نوع منه.

قوله: (ومن سحر فقد أشرك) هذا دليل على أن السحر لا ينفك عن الشرك، وأن كل ساحر مشرك؛ وذلك لأن السحر لا يكون إلا بواسطة الشيطان، وقد أخبر الله جل وعلا عن ذلك فقال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:١٠٢].

فأخبر أن الشياطين هي التي تعلم السحر، فلا يكون السحر إلا بواسطتهم، وللأسف فإن السحر قد كثر في الناس اليوم، وكثير منهم يتعاطاه؛ وذلك لانعدام الإيمان عند الكثير منهم، فلما انعدم الإيمان عندهم أصبحوا يتعلقون بالشياطين التي تعلمهم السحر.

قوله: (ومن تعلق شيئاً وكل إليه) التعلق: هو من القلب عادةً، تعلق بالشيء، أي: كأن قلبه تعلق به، إذا تعلق بالسحر أو تعلق بالعقد التي يعقدها وكل إليها، ومن تعلق بمخلوق وكل إلى ذلك المخلوق، ومن تعلق بصنعة من صنعته أو عمل من عمله وكل إليه، ومن تعلق برب العالمين جل وعلا فإنه يكفيه ويقيه من كل سوء كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:٣].

فالتعلق: فعل القلب، ويتبعه أعمال الجوارح، وهذا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أن الذي يتعلق على شيء يوكل إلى ذلك الشيء.

ومعلوم أن الذي يوكل إلى المخلوق يوكل إلى ضياع وإلى ضعف؛ لأن المخلوق ضعيف لا يستطيع أن يجلب لنفسه النفع، فمن تعلق بمخلوق وكل إلى ضياع وإلى عجز وإلى ضلال؛ فيهلك في أي وادٍ كان، وإنما يجب على العبد المؤمن أن يتعلق بربه جل وعلا، ومن تعلق قلبه بربه وتوكل عليه فإنه يكفيه ويقيه كل شر.