للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الكافوريات]

وفارق أبو الطيب سيف الدولة، وكان سبب مفارقته إياه إنه تغير عليه، وأصغى إلى قول الحساد فيه، فكثر الأذى عليه منه، فرحل من حلب، وركب البرية إلى دمشق. وكاتبه الأستاذ كافور المسير إليه، فسار إليه، فنزل بالرملة، فحمل إليه الأمير الحسن بن عبيد الله بن طغج هدايا وخلعا، وحمله على فرس بموكب ثقيل، وقلده سيفا محلى، وأراد منه أن يمدحه، إليه بالأبيات الرائية:

تَرْك مَدْحِيْكَ كالهجاءِ لِنَفِسي

قد تقدمت وألحقت بما قاله في ابن عبيد الله قديما.

ثم فارقه وقدم مصر، فأخلى له كافور دارا وخلع عليه، وحمل إليه آلافا من الدراهم، فقال يمدحه، أنشدها إياه في جمادى الآخرة من سنة ست وأربعين وثلاث مائة.

كَفَى بكَ دَاءً أَنْ تَرَى المَوْتَ شَافِيا ... وَحَسْبُ المَنَايَا أَنْ أَمَانِيَا

تَمَنَّيْتَها لَمَّا تَمَنَّيْتَ أَنْ تَرَى ... صَدِيْقا فَأَعْيَا أَوْ عَدُوّاً مُدَاجِيا

المداجاة: المساترة.

فيقول: كفى بك من الداء وشدته، ومن المكروه وبلوغ غايته، أن ترى الموت شفاء تطلبه، وتعتد به دواء ترغبه، وحسب المنايا في الظفر ببغيتها، والتمكن من إرادتها، أن يكن أماني يؤمل ورودها، ورغبات يستبطأ حلولها.

ثم قال يخاطب نفسه، ويبسط في تمنيه للمنايا عذره: تمنيت الموت واستبطأته، وكرهت العيش واستثقلته؛ لفساد الزمان وأهله، واستحالته في جملة أمره، وإني تمنيت أن أرى فيه صديقا فلم أجده، أو مداجيا بالعداوة فلم أبصره، إذ الناس كلهم أعداء غير ساترين، وأضداد غير مجاملين.

وأشار إلى قلة إنصاف سيف الدولة، وإنه أكثر من الإضرار به، وأن ذلك حمله على مفارقته، ودعاه إلى مباعدته ومصارمته.

<<  <  ج: ص:  >  >>