للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أقول لقد نزل الرد بقوله تعالى (ص) وأتبعها بالبيان بـ (حم) وكل حرف من الحروف المقطّعة كما دلت ألفاظها على أصلها، وهي الحروف الكتابية المعجمة، أي (أنا الله أعلم بلغات البشر وألسنتهم، أنا الله المبدئ للغاتهم والمفصّل لاختلافها، أنا الله الخبير بما يصلح من لغاتهم لتحمل كلامي ومقاصدي، أنا الله أرى ما في نفوسكم من كيد وتدبير أقول هذه الحروف، لتنزل بحكم الأسماء معرَّفة في كتابي المحكم، وجزءاً من كلامي المفصّل، لأرفع شأنها، ولأجعلها آيات للناس، أنا الله قد اخترتها لعلمي بها لا لجهلكم بها، وسأتمم على عبدي ورسولي نعمة الرسالة من غير نقص لما أعجزتكم به، ولتعلمنّ نبأ هذا الكتاب الذي فصّلت وأحكمت مكتوباً بهذه الحروف بعد حين)، إذن فهي موطن الشك عندهم لا في لغتهم ولسانهم على العموم، وشبهة شكهم في ذكر الله هي من باب الشك في قدرة لغتهم بحروفها لا بألفاظها على حمل كتاب الله، وهي شبهة قديمة باطنة في نفوس المشركين منذ بداية التنزيل، وزاد شكهم عند تنزيلها في أوائل السور كسورة القلم، ويظهر شكهم فيها هنا لأنهم أظهروه في كلامهم، ودلت عليه شبهتهم، فكشفها الله وأبطلها برده أنّه الأعلم بما هو الأصلح والأبقى، وهذه الحروف التي قالها الله وإن كانت أسماء لحروف بسيطة معجمة الكتابة في الأصل، ونكرات قبل قوله (١)، فقد رفع الإعجام والإبهام عنها بمجرد قوله جلّ في علاه، ومعلوم أن الحروف القديمة إذا كُتبت أُعجمت، وإذا قُرأت كانت هجاء، فهي حروف هجاء في كتاب الله لا حروف معجم (٢)، لأن العبرة في كتاب الله باللفظ ابتداءً لا بالكتابة، فصارت هذه الحروف المعجمة حروفاً من نور، أنارت درب العلم للمسلمين، وكانت مما اختاره الله لحمل كلامه في الكتاب الموعود، وهو الحكيم العالم بإحكام الكلام، والخبير بما يكون من تفصيله، كما في قوله تعالى {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: ١] فهو الخبير بألسنة الناس وعلوم كتابتهم. ولكن المشركين بعد هذا البيان وفضح أسرار نفوسهم لم يؤمنوا، وقال الله بعدها {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الاعراف: ١٧٩]. وسيظهر لنا إن شاء الله تعنتهم في هذه الحروف، كما هو حالهم دائماً، وذلك عند الحديث عن بيان دلالات الإعجاز فيها على أمية الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

وبحسب واقعهم فقد كان فيهم ثلاثة رجال هم أعتى المشركين في المكر والخديعة، ومن تتبع القرآن وأقوال المفسرين يجد ذكرهم متكرراً عند أغلب الشبه، وخاصة ما تعلق بالقرآن، وهم: النضر بن الحارث، (٣) والوليد بن المغيرة، (٤) وعتبة بن ربيعة، (٥) وهم أعلم العرب في الكلام وما سواه من علوم، وكانوا من المكثرين للتنقل في بلاد العجم للتجارة والسياحة والتنعم، وما أظن هذه الشبهة إلا من صنيعهم، ويصدّق هذا الظن ما جاء في السير أنّه لما قرأ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على


(١) ومن هنا علمنا إعراب الحروف في بداية السور، ولماذا أتت على السكون، وهي قراءة الجمهور، قال المبرد في المقتضب (ج٤ ص٤٣): "أما في التهجي فقولك: با وتا وقف لا يدخله إعراب؛ لأن التهجي على الوقف." وقال النيسابوري (ت ٤٠٦) في تفسيره غرائب القرآن ورغائب الفرقان (١٧١/ ١): "والدليل على أن سكونها وقف لا بناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو كيف وأين وهؤلاء ولم يقل صاد قاف نون مجموع فيها بين الساكنين." ونقل هذا الكلام الزمخشري في الكشاف (٢١/ ١) والرازي في التفسير (٣/ ٢) من غير عزو للمصدر.
(٢) ومن هنا نعلم بأن قول بعض المفسرين فيها: هي حروف هجاء موضوع فيه وجه حسن، ولكنها ليست الغاية والمعنى قطعاً. وقد روي هذا القول عن مجاهد بسند ضعيف كما عند ابن جرير (٢٠٨/ ١). وعزاه في الدر المنثور (٥٧/ ١) لابن المنذر والله أعلم.
(٣) كان النضر بن الحارث بن كلدة قد أخذ الطب والفلسفة مع أبيه في الحيرة. (شاكر - في حاشيتهم على تفسير الطبري ج١٨ ص٥٦٦)
(٤) كان من أفصح العرب في رجز الشعر وقصيده، كما قال عن نفسه وأقرت به قريش. (كما في صحيح السيرة النبوية للألباني ص١٥٨)
(٥) كان من أعلم العرب بالسحر والكهانة والشعر، كما قالت عنه قريش. (كما في صحيح السيرة النبوية للألباني ص١٥٩)

<<  <   >  >>