للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دروس من الهجرة النبوية]

دروس الهجرة لا تحصى ولا تعد، لكننا سنختار بعضاً منها، وبالذات الدروس التي لها علاقة ببناء الأمة الإسلامية.

الدرس الأول: الأخذ بالأسباب، بذل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه كل ما في الطاقة لإنجاح عملية الهجرة، وهذا هو الإعداد المطلوب من المؤمنين، أن يعدوا كل ما يستطيعون، وليس مطلوباً منهم أكثر من هذا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:٦٠]، لكن نلاحظ كذلك أنه مع هذا الإعداد العظيم إلا أنه حدثت بعض الثغرات في الخطة، وهذا شيء خارج عن حدود البشر؛ إذ الكمال لله وحده.

منها: أن المشركين حاصروا بيت الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خروجه، مع أن التخطيط أنه يخرج قبل الحصار، لكنهم أتوا قبل موعدهم الذي ظنه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أن أحد المشركين رأى الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما خرج، وقال لزعماء مكة: لقد خرج عليكم محمد.

أيضاً: المشركون وصلوا إلى غار ثور مع كل الاحتياطات التي أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم، وسراقة لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق.

فمثل هذه الثغرات لابد أن تحصل، لكن المهم أنك بذلت الوسع في الإعداد، وكذلك لو أنك بذلت الاستطاعة فإن الله سبحانه وتعالى يكمل العجز البشري، مثل ما حدث للكفار وحصل لهم عمى مؤقت أمام بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم يدخلوا الغار بعدما وصلوا إلى بابه، وخيل سراقة لا تستطيع المشي في الرمال، أشياء لم تكن في الحسبان، فالله عز وجل يعطيك هدية لو أنك بذلت وسعك.

إذاً: الدرس الأول: أن تبذل الوسع والله عز وجل سيكمل لك العجز من رحمته وكرمه سبحانه وتعالى.

الدرس الثاني: لم يعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم على الأسباب وترك رب الأسباب، إنما كان يعلم أن الأسباب لا تأتي بنتائجها إلا إذا أراد الله عز وجل، ولذلك بعد أن بذل أسبابه كاملة تحلى بقين عظيم، يقين أن ما أراده الله عز وجل سيكون حتماً، ظهر ذلك في كلمته الرائعة: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وظهر أيضاً في أنه لم يكن يكثر الالتفات في طريقه، فهو مطمئن إلى أن الله عز وجل سينصر رسله والذين آمنوا، ومن غير هذا اليقين لا أعتقد أن بناء الأمة سيحصل، أو أن أي نصر ممكن أن يتحقق، لابد من يقين بنصر الله عز وجل.

الدرس الثالث: لم يفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم روح الأمل في أي لحظة من لحظات حياته، حتى في هذه الرحلة الخطيرة، وهو يخرج من مكة بهذه الطريقة، وهو مطلوب لا يأمن على حياته ولا على حياة أصحابه، حتى في هذه الظروف يبشر سراقة ليس فقط بظهور الإسلام على قريش أو على العرب، بل وبسقوط عرش كسرى تحت أقدام المسلمين، وأخذ كنوز كسرى غنيمة: (كأني بك يا سراقة تلبس سواري كسرى).

الدرس الرابع: حرص الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مراحل حياته على الصحبة، عاش حياته في مكة بصحبة، وخرج إلى الطائف بصحبة، وقابل الوفود بصحبة، وعقد البيعة التي بنيت عليها دولة الإسلام بصحبة، وها هو يسأل جبريل عليه السلام عن صاحبه في الهجرة، كل هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل الناس تحتاج إلى صحبة، ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبحث عن الصحبة الصالحة.

الدرس الخامس: وضح لنا وظهر في هذه الرحلة كيف أن القائد العظيم هو الذي يعيش معاناة شعبه، يهاجر كما يهاجرون، ويطارد كما يطاردون، ويتعب كما يتعبون، ويعيش معهم حياتهم بكل ما فيها من آلام وتضحيات، كان من الممكن أن ربنا سبحانه وتعالى ينقل الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بالبراق الذي نقله قبل ذلك في لحظة واحدة من مكة إلى بيت المقدس، لكن أين القدوة في ذلك؟ لابد للمسلمين من طريق عملي لبناء الأمة، طريق في مقدور عموم المسلمين، ولابد أن يسير في هذا الطريق رسول صلى الله عليه وسلم رغم كل المعاناة والتعب؛ ليعطي قدوة لكل قائد.

الدرس السادس: رأينا كيف أن الدعوة في دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت مثل النفس عند عموم البشر، لا يضيع فرصة، لا يرتبط بظرف، يدعو كل من يستطيع، رأيناه كيف دعا إلى الإسلام بريدة وأصحابه من قبيلة أسلم، لم يكن همه الهروب حتى يصل إلى المدينة، بل اعتبر أن الله عز وجل قد ساق إليه هذا الرجل وقومه هدية من الله عز وجل، فتخيلوا فكيف يضيع فرصة مثل هذه، دعا بريدة وأسلم بريدة، وتغير حال بريدة وقبيلة أسلم كلها بعد هذا الإسلام، فانظروا إلى فضل الدعوة.

الدرس السابع: رأينا في هذه الرحلة استعداد الصديق رضي الله عنه وأرضاه للعمل لله عز وجل تحت أي ظرف وفي كل زمان ومكان، القضية في منتهى الوضوح عند الصديق، أهم شيء في حياة الصديق رضي الله عنه هو أن يرضي الله عز وجل، وأن يرضي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي أن يطلبه الله عز