للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[محاولة اليهود التفرقة بين المسلمين من الأنصار في المدينة]

ثالثاً: محاولة التفرقة بين الصف المسلم، وفك الرباط القوي الذي صنعه صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج، وقام بهذه المحاولة رجل يهودي كبير في السن اسمه شاس بن قيس.

قال كلمة هي في الحقيقة حكمة، قال: يا معشر يهود! تعلمون والله أنه لا مقام لكم في يثرب إذا اجتمع أبناء قيلة.

وأبناء قيلة: هم الأوس والخزرج؛ وذلك لأنه لو حصل هذا الاجتماع فإنه ستتوطد قوة الرسول عليه الصلاة والسلام داخل المدينة المنورة، وفي هذا إيذاء لليهود، فهم يكرهون الرسول عليه الصلاة والسلام.

كذلك اليهود تجار سلاح، وكانوا يربحون أموالاً طائلة من الحرب بين الأوس والخزرج.

فالرسول صلى الله عليه وسلم وحد الأوس والخزرج الآن، فلا يوجد هناك حرب، وستضيع قوة كبيرة جداً من القوى الاقتصادية عند اليهود، وهي قوة تجارة السلاح، فبعث شاس بن قيس شاباً وقال له: اجلس في مجلس فيه الأوس والخزرج واذكر يوم بعاث، وذكرهم بأشعار يوم بعاث، فتتحرك فيهم النخوة والحمية والقبلية والجاهلية فيصطرع القومان، وبالفعل ذهب ذلك الشاب وعمل هذا العمل، وجلس يقول تلك الأشعار بجانب هذا وهذا، ودخل الشيطان بين الأوس والخزرج، مع أنهم من عمالقة الإيمان حقيقة، لكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، وقام واحد من الأوس وواحد من الخزرج فتصارعا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها جذعة، أي: نرجع مرة أخرى إلى يوم بعاث ونجعلها حرباً جديدة، فغضب الفريقان جميعاً الأوس والخزرج، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة -مكان يدعى الحرة الآن- السلاح السلاح، فخرجوا إلى الحرة في لحظة من لحظات الضعف التي دخل فيها الشيطان فيها إلى قلوب الأوس والخزرج، وكادت أن تقوم مهلكة عظيمة بين الفريقين.

كان الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً وسط مجموعة من المهاجرين، فلما وصله النبأ الخطير قام مسرعاً يجر ثوبه حتى وصل إلى الأنصار وقال كلمات تختلف تماماً عن الكلمات التي قالها الرسول عليه الصلاة والسلام في حل المشكلة القديمة التي دارت قبل ذلك بين مشركي الأوس والخزرج ومؤمني الأوس والخزرج، والتي هيج هذه المشكلة عبد الله بن أبي ابن سلول.

ففي الحدث السابق ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبلية، وذكرهم بالتحدي لقريش، لكن في هذا الحدث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المسلمين! الله الله) ذكرهم برابطة الإسلام وذكرهم بالله عز وجل: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟)، علمهم أن دعوى الفرقة بين المسلمين دعوى الجاهلية، هكذا عرفها صلى الله عليه وسلم، فدعوى القومية: أنا أوسي وأنت خزرجي من دعوى الجاهلية، ثم قال: (بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم الجاهلية واستنقذكم بها من الكفر، وألف بين قلوبكم؟) فالحوار مختلف تماماً، يذكرهم برب العالمين سبحانه وتعالى، ويذكرهم بالإسلام، يذكرهم بقال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن نوعية المخاطب مختلفة، وشتان بين الخطاب لمجموعة مختلطة من المشركين مع المؤمنين، والخطاب لمجموعة خالصة من المؤمنين.

وعرف القوم أنها نزغة من نزغات الشيطان، وكيد من أعدائهم، فبكوا في لحظتهم وتأثروا جميعاً في لحظة واحدة، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، كأنه لم يحصل شيء.

مرت المشكلة بسلام، ولم يحدث أذى في داخل الصف المسلم، لكن ظهرت خطورة اليهود على المسلمين، وأنزل الله عز وجل في شاس بن قيس قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:٩٨ - ٩٩].

وأنزل سبحانه وتعالى أيضاً قولاً في الأوس والخزرج.

قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:١٠٠ - ١٠١].

وتتوالى الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ