للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تواضع القائد مع جنده وانصهاره فيهم]

هناك موقف مهم وعجيب حصل أثناء تسوية صفوف المقاتلين المسلمين، هذا الموقف يعرفنا أيضاً على صفة مهمة من صفات الجيش المنصور أثناء تسوية الصف، فالرسول صلى الله عليه وسلم وجد صحابياً متقدماً عن غيره من الصحابة في الصف، وغير مستو في مكانه، فجاء إليه صلى الله عليه وسلم وكان يمسك بيده قدحاً -سهماً بلا نصل- يسوي بها الصف، وكان اسمه سواد بن غزية رضي الله عنه، فضربه بالقدح ضربة خفيفة في بطنه، وقال له: (استوِ يا سواد!)، لكن العجيب في الموقف هو رد فعل سواد رضي الله عنه الذي فاجأ الجميع بقوله: (يا رسول الله! أوجعتني فأقدني)، يعني: الضربة أوجعتني وأنا أريد القصاص، يريد أن يقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد الجيش، بل قائد الدولة الإسلامية، لكن الأعجب من كل هذا رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد استجاب دون أي جدل لطلب سواد، ولم يقل له: الضربة خفيفة وأنا قائد الجيش، وليس فقط ذلك، بل إن سواداً كانت بطنه عارية، فلما ضربه الرسول عليه الصلاة والسلام جاءت الضربة على بطنه مباشرة، فكشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه ليضربه سواد ضربة مماثلة تماماً على البطن مباشرة ودون ثياب.

فهل هذا الموقف يحصل في الجيش الآن بين جندي وعقيد أو حتى رائد أو نقيب؟ لن أقول لك: لواء أو مشير.

هل هذا من الممكن أن يحصل؟ لكن هذا الحدث حصل في التاريخ مع الرسول عليه الصلاة والسلام، حصل مع قائد الدولة بكاملها، كشف عن بطنه وقال: (استقد)، خذ حقك.

اضرب، لكن سواداً اعتنقه وقبل بطن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله! قد حضر ما ترى -أي: حضر أمر القتال والحرب- فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك) فدعا له صلى الله عليه وسلم بخير.

ولم يمت سواد في بدر، لكنه لفت أنظارنا إلى صفة أصيلة من صفات الجيش المنصور، هذه الصفة هي تلاحم القائد مع شعبه وانصهاره فيه، فالجيش المنصور لا فرق فيه بين قائد وجندي، والأمة المنصورة لا فرق فيها بين حاكم ومحكوم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار في بيعة العقبة الثانية: (أنا منكم وأنتم مني)، وقد رأينا هذا الأمر قبل ذلك في مكة، وفي قصة بناء المسجد النبوي، ورأيناه الآن في كل خطوات بدر، وسنراه كثيراً من أول لحظات الخروج من المدينة إلى بدر، فقد كان الصحابة يتناوبون على الإبل لقلة عددها، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو قائد الجيش يتناوب في الركوب مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه، وفي رواية: مع أبي لبابة رضي الله عنه.

وأثناء السفر قال الصحابيان للرسول صلى الله عليه وسلم: نحن نمشي عنك، فانظر إلى رد الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يريد أجر المشي في سبيل الله، وهذا التصرف يزيد من حماسة الجند، وذلك عندما يجد القائد معه في كل خطوة من مشاكله وتعبه وسعادته وحزنه، ليس هناك ترفع ولا كبر ولا ظلم ولا كراهية، أما الآن في بعض الدول الإسلامية يكون هناك ألف حاجز بينك وبين الزعيم لابد أن تجتازها، حتى تستطيع أن تصل إليه، بل من المستحيل غالباً أن تتجاوز التسعمائة حاجز الأخيرة.

فهذه مشكلة لو حصلت في أمة ليس من الممكن أن تنتصر أبداً، ولتراجعوا معي سيرة زعماء الأمة الذين حصل في زمنهم نصر وتمكين وعزة، فإنك ستجد اختلاطاً كاملاً من القائد مع الشعب، كـ صلاح الدين الأيوبي، وقطز، وعبد الرحمن الناصر، وموسى بن نصير، ويوسف بن تاشفين وغيرهم كثير.

فلتراجعوا تاريخ الأمة، فإنكم ستجدون هذه الأشياء واضحة مثل الشمس، وعلى النقيض تماماً كل لحظات الانهيار والتردي في حالة الأمة تكون مصحوبة بعزلة الحاكم عن الشعب.

روى الترمذي وأبو داود عن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ولاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره).